بناء الجيش الوطني السوري

الاجتماع الموسع للقوى والشخصيات المدنية والسياسية

من أجل بناء جيش وطني سوري

 الدكتور هيثم مناع ــــ العميد الركن المجاز فايز عمرو

منذ اختيار السلطة الحاكمة وتجمع المصالح العسكري الأمني إدخال المؤسسة العسكرية طرفا أساسيا في مواجهة الحراك الشعبي السلمي، بدا الصدع واضحا في طرفي المواجهة: من جهة وقف أكثر من مسئول في السلطة التنفيذية ضد هذا القرار، معبرا عن موقفه سواء بالاعتكاف عن مراكز القرار (كما كان موقف نائب الرئيس فاروق الشرع على سبيل المثال) أو بالانشقاق ومغادرة البلاد (كما كان موقف عدد كبير من الضباط من مختلف الرتب وكبار موظفي الدولة والمسؤولين السياسيين تباعا).

 في حين كانت تبدوا فبه الصورة أكثر ضبابية ضمن صفوف القوى السياسية المعارضة: فالإسلاميين من إخوان وسروريه وسلفية جهادية وأبنائهم لم يفرقوا بين الدولة والسلطة، وبناء على منظورهم هذا يجب التخلص من مؤسسات الدولة، وإن كان ذلك على طريقة بريمر في العراق. بينما طرحت المعارضة الوطنية الديمقراطية عدة مشاريع لإصلاح المؤسستين العسكرية والأمنية لمواجهة الاستخدام المفرط للسلطة الحاكمة لهما في مواجهة وقمع الجماهير المطالبة بالتغيير.

بيد أن التطور الأبرز في مسار الأحداث هو إفراج السلطات الأمنية السورية عن 1400 معتقل جهادي سلفي من سجن صيدنايا بموجب عفو رئاسي في شهر أيار/مايو عام 2011م، معبدة الطريق بذلك للفصائل الجهادية لتشاركها في هدم أكبر تحرك شعبي سلمي في تاريخ سوريا القديم والمعاصر. وانجرت البلاد إلى أتون صراع مسلح متعدد الجوانب بارتباطات محلية ودولية تقدم فيها الطرف الأكثر احترافا وتجربة على الهواة.

 في حزيران/ يونيو 2011م تشكلت “كتائب أحرار الشام قبل تشكيل أي تجمع للجيش الحر، وتقدم المشهد التمثيلي للمعارضة الخارجية، أنصار “الأنموذج الليبي” والعسكرة والتدخل الخارجي، كما تم تكريس الطابع المذهبي للصراع. 

رغم وجود صراعات بين الأطراف الإقليمية والدولية خلال السنوات الماضية، لكنها اتفقت جميعا على إبعاد آلاف الضباط المنشقين من ذوي الرتب العليا عن غرف عملياتها ومساعداتها وتسهيلاتها اللوجستية بسبب مواقفهم الوطنية. بينما قدمت كافة التسهيلات المبرمجة لحصر المواجهات المسلحة بين فصائل راديكالية ذات طابع مذهبي تحتوي على عدد كبير من العناصر الأجنبية من جنسيات متعددة وبين ما تبقى من وحدات وقطعات وتشكيلات جيش النظام بمشاركة حلفائه من ميليشيات الدفاع الوطني المحلية وعدد كبير من الميليشيات الأجنبية أيضا ذات الطابع المذهبي.

 **** لقد حدث ما حذرنا الجميع منه منذ اللحظات الأولى للحراك الشعبي: “إذا تسلحت تطرفت وتطيفت وذهب ريحها”.

دون أدنى شك كان حزب “المسعورين” آنذاك هو الأقوى ماديا وإعلاميا، عربيا، إقليميا ودوليا، وإن لم يكن كذلك شعبيا.

 نظرا لرفض المجلس الوطني وائتلاف قوى المعارضة فكرة التفاوض ولغة الحوار، بادرنا في نهاية كانون الثاني/يناير 2013م الى تنظيم مؤتمر سوري دولي من أجل سورية ديمقراطية ودولة مدنية في نهاية يناير 2013، لكن ما سمي بتحالف “أصدقاء الشعب السوري” بقي مصرا على العسكرة ودعم غرف عملياته في الشمال والجنوب (الموك والموم)، وانحسر خطاب عدد من “الديمقراطيين” بالمطالبة بالأسلحة النوعية وتغيير موازين القوى والتدخل العسكري الخارجي”.

من مآسي التاريخ ونوائب الدهر التي حلت بنا نحن السوريون، أن يبدأ التقدم العسكري لتنظيمي داعش والنصرة وإعلان الجهاد في سورية من إستاد القاهرة بحضور الرئيس المصري محمد مرسي، كان ذلك بمثابة الصاعق الكهربائي الذي أقنع مجموعة أصدقاء الشعب السوري بأن الحل العسكري في سوريا سيكون كارثي النتائج، وأن الحل السياسي هو الطريق الوحيد أمام السوريين للخروج من هذا المستنقع. مع كل ما تبع ذلك من قيام التحالف الدولي.

نجحنا في 2015 بتنظيم مؤتمر للمعارضة السورية من أجل الحل السياسي ومن مفرزات هذا المؤتمر الأوراق الأفضل في تاريخ المعارضة. سواء ما يتعلق منها بالعقد الاجتماعي لسورية الجديدة (الميثاق الوطني) أو خارطة الطريق.

 دعونا نتوقف قليلا عند أول تصور سوري – سوري لفكرة “الحوكمة” أو هيئة الحكم الانتقالية، لقد صدرت عن مؤتمر القاهرة وقتئذ وهي تتعلق برؤية الوطنيين الديمقراطيين السوريين لهيئة الحكم الانتقالي قبل القرار 2254: تحت عنوان “النظام السياسي المنشود في سورية.

طرحت هذه الوثيقة الطابع المؤسساتي المركب لهيئة الحكم الانتقالي كما أسميناها آنذاك بالنجمة الخماسية. وتنص على: أن يتم الاتفاق بين الجانبين على تشكيل هيئة الحكم الانتقالي التي تنقل لها جميع الصلاحيات التشريعية والتنفيذية وينبثق عنها المؤسسات التالية، على أن يتم تسمية أعضائها ورئاساتها في غضون شهرين من بدء المفاوضات تحت ضمانات دولية:

1-المجلس الوطني الانتقالي

يتولى مهمة التشريع والرقابة على الحكومة في المرحلة الانتقالية، ويضم ممثلين عن كافة التحالفات والقوى السياسية المؤيدة للانتقال الديمقراطي، وممثلين عن المجتمع المدني بحيث يمثل كافة مكونات الشعب السوري على نحو وازن وعادل، ويقر المجلس الميثاق الوطني لسورية المستقبل، وإعلان دستوري مؤقت.

2-مجلس القضاء الأعلى

الاتفاق على تشكيل “مجلس القضاء الأعلى” وتحديد مهامه، وتسمية أعضائه من بين قضاة مستقلين محايدين معروفين بالكفاءة والنزاهة.

3-الحكومة الانتقالية

يتم تشكيل حكومة انتقالية، وتسمية أعضائها وتوزيع حقائبها، على أن تتمتع هذه الحكومة بكافة الصلاحيات التنفيذية المدنية والعسكرية الممنوحة لرئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء في الدستور الحالي، وذلك وفقاً لبيان جنيف.

4-المجلس العسكري الوطني الانتقالي

إن تشكيل مجلس عسكري انتقالي بصلاحيات واسعة أو استثنائية في المرحلة الانتقالية لا بد أن يستند الى توافق سياسي وطني، يضم المجلس ضباطاً محترفين ومؤهلين مسلكيا يمتلكون الكفاءة ويتمتعون بالنزاهة ويؤمنون بالانتقال الديمقراطي السلمي للسلطة، ويخضعون للحوكمة الديمقراطية، يعمل المجلس تحت إمرة الحكومة الانتقالية، وتخضع له كافة القوى والفصائل المسلحة.

يتصدى المجلس العسكري الانتقالي لتنفيذ مجموعة من المهام الرئيسية في مقدمتها:

  1. إعادة بناء جيش سوري وطني يمتلك عقيدة عسكرية دفاعية، يخضع لأمرة قيادة سياسية منتخبة، وتحدد مهامه دستوريا، ويبقى بعيدا عن ممارسة الحياة السياسية أو التدخل فيها،
  2. اتخاذ التدابير اللازمة لضمان الامن والاستقرار والسلم الاهلي في جميع انحاء البلاد بإشراف الحكومة الانتقالية.
  3. العمل على إعادة تفعيل عمل قيادات القوى والهيئات والشعب والادارات والمناطق العسكرية مع تحديد صلاحياتها في المرحلة الانتقالية.
  4. اصدار القرارات واتخاذ التدابير اللازمة لجمع السلاح غير الشرعي، وإنهاء كافة المظاهر المسلحة في جميع انحاء البلاد والاشرف على تنفيذها.
  5. وضع وتنفيذ الخطط اللازمة لبسط سيادة الدولة على كامل اراضي الجمهورية العربية السورية بحدودها الجغرافية المعترف بها دوليا ومنع كافة عمليات التسلل عبر الحدود وضبط المعابر الحدودية مع دول الجوار.
  6. اصدار القرارات والاوامر اللازمة من أجل تسوية أوضاع العسكريين من الضباط وصف الضباط والافراد المنشقين من الجيش والاجهزة الامنية والمسرحين والمطرودين واعادتهم الى الخدمة وفق الحاجة مالم يكن قد صدر بحقهم عقوبات على خلفية جنائية أو أخلاقية، ومنحهم العلاوات والترقيات والتعويضات اللازمة.
  7. وضع الخطط واصدار الاوامر اللازمة لضبط وتفكيك الفصائل المسلحة ووضع برامج إعادة تأهيل العناصر من خلال لجان مهنية.
  8. اصدار القرارات والتوجيهات الكفيلة بتأمين رقابة فعالة لأداء المؤسسة العسكرية والاجهزة الامنية وتمكين أجهزة الرقابة العسكرية من أداء واجباتها وضمان محاسبة المخالفين بما يتوافق مع المعايير الدولية لدور ومهام القوات المسلحة.
  9. تشكيل لجان خاصة من أجل إعادة النظر في عملية التربية والتعليم العسكرية وصياغة مناهج التدريب العسكري وإعادة صياغة أنظمة قتال القوات المسلحة الاساسية وأنظمة عمل كافة مؤسسات الجيش والقوات المسلحة وفق أسس مهنية تستند الى المهام الرئيسية للجيش الوطني السوري خارج إطار التبعية الحزبية أو الأيديولوجية،
  10. اصدار القرارات والاوامر اللازمة والاشراف على عملية إصلاح وإعادة بناء الاجهزة الأمنية العسكرية، ووضع خطط وبرامج تطوير النظام الامني بما ينسجم مع المعايير الدولية للآمن وحقوق الانسان وتخضع للحوكمة الديمقراطية.

5-الهيئة المستقلة العليا للإنصاف والعدالة والمصالحة

 يشكل المجلس الوطني الانتقالي “الهيئة المستقلة العليا للإنصاف والعدالة والمصالحة”، ويحدد مهامها.

تعتبر هذه الهيئة بمثابة لجنة وطنية للحقيقة والانصاف والمصالحة لتسوية ملف الانتهاكات الجسيمة الماضية التي تعرض لها افراد وجماعات من تنكيل وتعذيب وقتل واهدار للكرامة وما تعرض له ذووهم من اضرار مادية ومعنوية في عهد حكم الاسد الاب والابن الذي بدأ في السبعينات من القرن الماضي.

ينظم العمل ضمن الهيئة وفق نظام اساسي يراعي خصوصية المهام التي تعمل على تنفيذها من خلال فرق عمل ولجان خاصة ومكاتب ادارية وتقنية تلبي احتياجات تلك الفرق واللجان.

تضع الهيئة برنامجاً للمصالحة الوطنية وإعادة السلم الأهلي، والإشراف على برنامج العدالة الانتقالية، ورأب الصدع الذي أصاب النسيج المجتمعي السوري جراء الأحداث الماضية.

اعتبر السيد ستيفان ديميستورا هذا التصور أول محاولة عقلانية لبلورة شكل عملي للانتقال السياسي، وقد أيدنا على ضرورة صدور قرار من مجلس الأمن الدولي بهذا الخصوص.

 قرأ عليه وفد مؤتمر القاهرة الذي ضم (خالد المحاميد، وليد البني، عبد القادر السنكري، هيثم مناع) مسودة اقتراح لهذا القرار الأممي تنتهي بالجملة التالية: بسبب تعقيدات الأزمة السورية، والتدخلات الإقليمية والدولية فيها، وخصوصاً التعقيدات الناجمة عن الصراع المسلح في البلاد، ولصعوبة وقف الأعمال العسكرية بإرادة المتقاتلين السوريين، من الضروري أن يتم ضمان أي اتفاق بين الجانبين السوريين من قبل الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية والإقليمية، بحيث تكون تلك الدول والأطراف هي الشاهد والضامن لتنفيذ الاتفاق بإشراف الأمم المتحدة.

كان هذا أول تصور عملي لبناء الحوكمة الانتقالية أو هيئة الحكم الانتقالي، وقد تثبت منه جزء هام في اجتماعي فيينا وصدور القرار 2254.

مع كل الاحترام لهيئتي التفاوض الأولى والثانية، لم يحمل أي طرف تصورا متكاملا لعملية الانتقال السياسي. أما الوفد الحكومي، فكان يستند الى الحجج الواهية والأكاذيب مما شّل وقتل العملية السياسية، مستفيدا من التدخل الإيراني-الروسي المباشر الذي لم يحيجه يوما للمطالبة بسلاح نوعي أو تغيير موازين القوى. ومع أول لقاء قمة روسي تركي، بدأ الصدع الأول في مفاوضات جنيف مع انطلاق ثلاثي الاستانة في مسار موازٍ.

في 2017 حاول ستيفان ديميستورا تقديم فكرة السلال التفاوضية الأربع، ورغم تحفظ وفد المعارضة على السلة الرابعة فقد عرضها ديميستورا في مراجعته أمام مجلس الأمن ونوردها للذكرى:

السلة الأولى: حول إنشاء هيئة حكم شاملة للجميع وغير طائفية وذات مصداقية خلال ستة أشهر

السلة الثانية: فترة مستهدفة قدرها ستة أشهر بتحديد جدول زمني وعملية لصياغة دستور جديد

السلة الثالثة: عملا بالدستور الجديد إجراء انتخابات حرة ونزيهة خلال 18 شهرا

السلة الرابعة: تتناول القضايا المتعلقة بمكافحة الإرهاب وهيئات إدارة الأمن وكذلك تدابير بناء الثقة.

اجتمعنا في المعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان لمناقشة الموضوع وتقدم الدكتور خالد المحاميد، وكان عضوا في الوفد المفاوض، بنقد لفكرة السلال الأربع قال فيه:  في بلدان الجنوب كافة، ثمة مشكلة مركزية، هذه المشكلة لا تتعلق بالسلطة التنفيذية أو التشريعية بالمعنى المباشر، وإنما بالمؤسسة العسكرية وعقيدتها ودورها السياسي أولا، والسلطة القضائية وتبعيتها وتغييبها ثانيا… أنا أرى أن معضلة بناء جيش وطني يمثل المجتمع والمواطنة، بعقيدة قتالية قائمة على الدفاع عن الوطن وحماية المواطن، بعيدا عن أية إيديولوجية إثنية أو دينية، يشكل الخطوة الأساسية للانتقال من نظام الحزب العقائدي والجيش العقائدي، الذي طبقه النظام وتحمل رايته الفصائل الجهادية والكردية أيضا، إلى نظام دولة سورية مستقلة عن الإيديولوجيات التي تقسم البلاد وتفرق بين المواطنين في البلد الواحد.  كذلك لاحظنا كيف يتكهرب النظام وحليفه الروسي وأطراف عديدة في المعارضة من كلمة “العدالة الانتقالية”. ويتصورون أنفسهم أمام محكمة لمجرمي الحرب وتجار الحرب. ولكن هل يمكن في أي صراع أو حرب، أن نضع حدا لآلام وأحقاد الموت والقتل، دون المباشرة في بناء سلطة قضائية مستقلة”. انتهى الاستشهاد، (نشر هذا الكلام في مقالة للدكتور خالد بعنوان: من أجل إنجاح الحل السياسي العادل في 10/03/2017.).

لقد أصاب الدكتور المحاميد في كلامه أعلاه كبد الحقيقة، وعاد لطرح تصور مؤتمر القاهرة للطبيعة المركبة الضرورية لهيئة الحكم الانتقالي، وضرورة التواصل مع الكوادر العسكرية الهامة، التي جرى إبعادها وتهميشها في مؤتمري الرياض، لتكون طرفا أساسيا في بلورة تصور عقلاني لبناء الجيش الوطني السوري. وقبل أن يتحول قطاع من فصائل الشمال باعتراف الجميع إلى تبعٍ ومرتزقة وقطاع طرق، جرت دعوة عدد من كبار الضباط المنشقين إلى جنيف، للاستماع لآرائهم في عملية بناء جيش وطني سوري. وكان ثمة توافق على مركزية هذا الموضوع، كمكون أساس من مكونات الحوكمة في سوريا للانتقال السياسي ضمن التصور الذي تبناه مؤتمر القاهرة لهيئة الحكم الانتقالي.

دخل الملف السوري نفق النسيان الإقليمي والدولي مع نشوب الحرب المستعرة بين روسيا وأوكرانيا، وازداد الوضع هشاشة وضبابية مع العدوان على غزة وبداية أطول حرب في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.

في الوقت الذي بدأت فيه الدول العربية تطبيع علاقاتها مع نظام بشار الأسد المتهالك، كانت هيئة تحرير الشام تعد العدة، بمساعدة دولية من أطراف شاركت في تصنيفها على قوائم الإرهاب فوق الطاولة وقدمت لها كل الوسائل المالية والعسكرية لتكون القوة المركزية في عملية عسكرية تستثمر في انشغال حليف نظام دمشق الروسي وما تعرض له الحليف الإيراني وأذرعه العسكرية المختلفة في المنطقة. دخلت غرفة العمليات العسكرية في عملية “ردع العدوان” في معارك خاطفة نجحت فيها بخسائر ومواجهات لا تذكر من الوصول إلى دمشق بعد دخول أحرار الجنوب العاصمة قبلها. وتجنبا لأية مواجهات دموية يمكن أن تزيد في الضحايا والدمار، فقد غادروا العاصمة صونا للدماء وأرواح الناس.

اليوم، تسيطر غرفة العمليات العسكرية على قرابة 40 بالمئة من الأراضي السورية، ولكنها تتصرف باعتبارها الطرف المنتصر الذي حرر سوريا من طغيان نظام الأسد… كان هذا اليوم عرسا للشعب السوري بمختلف شرائحه وأطرافه.

 لقد صدرت من الإدارة العسكرية قرارات تسد الطريق على ما يمكن أن يحرر السوريين، من أوجاع أكثر من نصف قرن من الفساد والطغيان والاستبداد. أولها في التعيينات التعسفية لقرابة خمسين شخصا في مواقع أساسية عسكرية وأمنية للإمساك بالمؤسستين العسكرية والأمنية في البلاد، وثانيها في تشكيل حكومة وحيدة اللون محدودة الخبرة والكفاءة لترتيب الأمور، وثالثها في تصرف وزراء حكومة الأمر الواقع هذه وكأنهم من يقرر شكل الإدارات وقطاع الدولة والتسريحات والملاحقات والاعتقالات ومختلف قضايا التعليم والثقافة والسياسة الاقتصادية والعمل النقابي الحر وسياسة الإسعاف المعاشي والصحي. وأخيرا وليس آخرا، ورغم المطالبات الشعبية بإبعاد العناصر المسلحة غير السورية عن المدن والناس، صم الآذان عن نداءات السوريين، وبقاء المقاتلين الأجانب من الملثمين وغير الملثمين، يروعون السكان بخطاب طالباني يثير الرعب.

لم تقم سلطات الأمر الواقع الجديدة بأية مبادرة للتفاعل مع القوى السياسية والمدنية وتصر على التعامل مع الآخرين بوصفهم أشخاصا. ولم تتواصل مع آلاف الجنود والضباط الذين انشقوا عن جيش النظام ووقفوا في صف الثوار… حتى العسكريين الذين تركوا سلاحهم وسلموه، اعتقل منهم أكثر من تسعة آلاف دخلوا السجون. وجرت “مصالحات” مع ضباط تلوثت أيديهم بدم السوريين مقابل مبالغ مالية، وحتى الآن لم تجر محاسبة من قتل السوريين والسوريات تحت التعذيب… في حين توزع كتيبات شبه دينية لأشباه شرعيين حول المرأة والملل والنحل والملبس والمأكل في مشاهد لم تعرفها سورية عبر التاريخ.

الضباط الأحرار وسوريا الغد

لا يمكن لسنوات طويلة من التهميش والتضييق والحصار، التي تعرّض لها خيرة ضباط الجيش السوري المنشقين أن تنتج وضعا صحيا جيدا وانسجاما داخليا. وكما هو قانون الحياة، انتقلت معظم أمراض المعارضة السياسية إلى الوسط العسكري، سواء في تقديم الخطابات على المنهج والعاطفة على العقل. ولكننا جميعا نلاحظ بالعين المجردة، أن الأغلبية الساحقة من الضباط السوريين المنشقين، والضباط الذين لم يكونوا في مواجهات مباشرة أو حالة تبعية لأجهزة النظام البائد، قد تمكنوا من الحفاظ على قيم الشرف والتضحية والإخلاص لوطنهم ولم يتنازلوا عن ثوابتهم الوطنية رغم الحصار والتجويع الذي تعرضوا له. وهؤلاء هم الضمانة الأساس لبناء جيش وطني سوري يتمتع بالكفاءة والخبرة. هؤلاء ليسوا من هذا الحزب أو ذاك، أو إيديولوجية دينية أو عرقية أو علمانية… وفي هؤلاء ومعهم يمكننا أن نبصر الأمل في بناء جيش وطني سوري جدير بالتسمية.

إن أي مشروع سياسي للخلاص، وليس لإعادة إنتاج ما مزق البلاد وقتل وشرد العباد، أي كان مصدره، عسكري أو مدني أو مختلط، من حقه التعبير عن نفسه بخطوط عامة وأساسية واضحة. الجنرال شارل ديغول عندما أطلق حركة المقاومة الفرنسية، وضع برنامجا شاملا وواضحا لفرنسا الحرة، يتناول فيه دولة مؤسسات تضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية الأساسية لكل مواطني فرنسا، دولة مدنية محايدة تجاه العقائد والإيديولوجيات، وقد ضمت المقاومة الشيوعي والكاثوليكي، الليبرالي والديمقراطي الاجتماعي.

إننا نعتقد بدور ضروري وأساسي لكل الضباط الأحرار وكل الطاقات الأكاديمية العسكرية السورية في عملية التغيير والانتقال، كجزء من مركب الحوكمة الانتقالية الذي يشمل عقدا اجتماعيا سوريا جامعا وسلطة تنفيذية مدنية وسلطة تشريعية منتخبة وبناء جيش وطني وسلطة قضائية مستقلة. أما أن يعهد هذا الأمر لأحد أطراف الصراع المكبل بتصنيف أممي على قوائم الإرهاب تنظيما ورموزا، فثمة مخاطر كبيرة لا يمكن حساب نتائجها في مجتمع عانى من منظومة حكم عسكرية أمنية طيلة نصف قرن.

من مهمة كل الوطنيين السوريين والسوريات، أن ينظروا في المخاطر التي تحيق بسوريا الوطن، وسوريا المواطن وآمالهم التي قدموا من أجلها أكثر تضحيات دفعها شعب منذ الحرب العالمية الثانية.  

إن الإجراءات السريعة والمتسرعة في كل ما يتعلق ببناء الجيش السوري وجهاز الأمن الوطني، والصرف التعسفي لقوات الأمن الداخلي التي كانت أقل الأطراف السورية تورطا فيما عاشته سوريا من مآس، وانتشار عناصر غرفة العمليات العسكرية التي يسميها بسطاء الناس “بالمتعددة الجنسيات” تلطيفا وخوفا، يضع سوريا أمام كوابيس الحرب الأهلية والتقسيم والتقاسم. ولا يمكن لفصيل عسكري مكبل بجرائم الحرب والأحقاد والخطاب الثأري أن يجلب للبلاد الأمان والسلامة، ولا حتى تأمين الحد الأدنى من شروط العيش الكريم للناس ورفع العقوبات الجائرة على سوريا.

إن جملة القرارات والتعيينات من طرف واحد لبناء مؤسسة عسكرية نواتها الصلبة فصيل عسكري هجين يحمل إيديولوجية مغلقة ومنغلقة، يعني وضع المجتمع السوري أمام أسوأ خيارات يمكن أن يتعرض لها مجتمع منهك بالصراعات المسلحة ودمار البنيات التحتية الاقتصادية والمجاعة… خاصة وأن هذا الفصيل مديون لداعميه وأسير لهم في القرارات المصيرية المتعلقة بقضايا السيادة والبناء الاقتصادي واستعادة سوريا لعافيتها دولة وشعبا.

من هنا ضرورة تشريح الوضع الحالي بنظرة عقلانية وطنية، وتتبع ما أصاب الشعوب التي آلت فيها السلطة الى ميليشيا عسكرية مؤدلجة وسيطرت فيها على مؤسستي الأمن والجيش وكيف كان المآل مجازر جماعية. وأن يعلم السوريون وجيرانهم العرب، أن غرق البلاد في نظام عسكري إيديولوجي يعني غرق المنطقة بأكملها في الفوضى والمجهول.  

إننا نناشد كل الضباط الوطنيين التكاتف والتعاضد من أجل مشاركة أبناء الشعب طموحاتهم في الحرية والكرامة.

نتوجه باسم الآلاف المؤلفة من الوطنيين والديمقراطيين السوريين إلى الرئيس التركي السيد رجب طيب اردوغان: تذكّر سيادة الرئيس: بكلمة طالق بالثلاثة، تنتهي علاقة المسلم مع زوجته، ولكن الجمهورية التركية لا تستطيع تغيير الجار السوري بألف تسونامي. بوقوفكم مع الشعب السوري، سيسجل لكم التاريخ تعاملكم مع السوريين كشعب حر وجار ند وصديق يتطلع الى المستقبل الزاهر للشعبين السوري والتركي.

نناشد جامعة الدول العربية عدم قبول عودة سورية بنفس الثوب الذي طردت من أجله، ثم الترحيب بحكومة أمر واقع في وفودها من تصنفه هذه الدول على قوائم الإرهاب، فهناك مسؤولية تاريخية تقع على عاتقكم، لأنكم كنتم، لسنوات خلت، وبدرجة أو بأخرى، طرفا مباشرا في المأساة التي عاشها السوريون والسوريات ومازالوا، وتقع عليكم مسؤولية تاريخية كبيرة في مساعدة شعب وبلد آل المآل بهما إلى غرفة العناية المشددة والموت السريري.  واجبكم الوطني، القومي والديني ومصالحكم المباشرة وغير المباشرة تتطلب منكم أن تكونوا أكثر جدية ومسؤولية في التعامل مع قضايا الشعب السوري، على الأقل، لأنكم لن تكونوا بمأمن عن كل مصيبة تصيبنا.

نتوجه أخيرا إلى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن بالسؤال: من سيحترم منظمتكم عندما تمتنع عمليا من القيام بواجبها تجاه بلد عضو في الأمم المتحدة منذ ولادتها؟

في الختام: إن الكوادر الوطنية وعلى نحو الخصوص العسكرية منها عندما آثرت الوقوف الى جانب شعبها لم تكن تبحث عن أية منافع آنية بل كانت تلبية لنداء الواجب الوطني والأخلاقي واستجابة لمضمون القسم الذي اقسمته في الدفاع عن الوطن والشعب. هذه الكوادر تؤكد اليوم وعلى نحو مبدئي وثابت بأنها لا زالت وفية للقيم التي تؤمن بها، وستكون قادرة بإذن الله على تحطيم الطوق المفروض عليها وإنقاذ الوطن بالتعاون مع جميع المخلصين.

إن وطننا مهد الحضارة الإنسانية حامل رسالة المحبة والسلام والعدالة، لم يكن يوما مصدرا للإرهاب والعنف والفساد إلا في ظل دولة البعث ونشاز بعض فصائل المعارضة، وإن الكوادر المنشقة عن جيش ومؤسسات النظام تسعى لتجاوز أمراض النظام البائد والمحسوبية والفساد واستعادة الوجه الحضاري والموقع الطبيعي لهذا الوطن العريق.

كلمات مفتاحية

Scroll to Top