منذ ٢٠ تشرين الثاني تقوم القوات التركية بقصف جوي لمواقع وجود قوات تابعة لوحدات حماية الشعب YPG في شمال سوريا رداً على عملية التفجير في اسطنبول. كانت قد اتهمت تركيا حزب العمال الكردستاني بالوقوف وراء هذه العملية وقد نجم عن القصف ضحايا مدنيين ومسلحين بل وأيضاً جنود من الجيش السوري.
لا يمكن وفق القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة تصنيف هذا القصف التركي لشمال البلاد إلا في إطار العدوان والتدخل العسكري الخارجي، وإن جاء هذا القصف ضمن توافقات سياسية وقانونية متمثلة في اتفاقية أضنة ١٩٩٩ والتفاهمات التركية الروسية في إطار مسار آستانة حتى لو كانت هذه المناطق التي تتعرض للقصف خارج سيطرة الحكومة المعترف عليها من الأمم المتحدة.
تستند الحكومة التركية في قصفها للشمال السوري إلى حقيقة وجود مقاتلين غير سوريين تدعي انتماءهم إلى تنظيم حزب العمال الكردستاني، الأمر الذي اعتبر منذ عقود، المسألة الأمنية الأهم في سياسات الدولة التركية وأدبيات أغلبية أحزابها السياسية. وهي ترفض جملةً وتفصيلاً أي إعلان خاص لمنطقة شرق الفرات كمنطقة كردية تتمتع بحكم ذاتي، الأمر الذي يشكل بالنسبة لها سابقة إقليمية خطيرة تمس جوهر الجمهورية التركية نفسه، التي تعتبر الكورد في تركيا جزءا من الشعب التركي. خاصة وأن الوجود الكردي في تركيا يمثل أكثر من نصف الكرد في العالم أجمع بقليل.
منذ ولادة قوات سوريا الديمقراطية، شددت القوى الديمقراطية السورية في حوارها مع قسد ومسد، على فكرة جوهرية، هي أن العدو الفعلي لأية وضعية خاصة للمناطق ذات الأغلبية الكردية، هو الدولة التركية وليس الشعب السوري، وأن المسار السياسي الانعزالي لها سيحرمها من أي دعم سياسي وشعبي. للأسف كانت مراكز القوى في شرقي الفرات تعتقد أن الحماية الأمريكية تشكل فرصة تاريخية لها لتحقيق مشروعها الخاص، وها نحن نرى الأمريكي يضع دعمه لقسد في سوق المساومة مع الحكومة التركية مقابل الحصول على مواقف داعمة لحلف الناتو في الحرب الروسية-الأوكرانية.
إن الحل السوري المرتقب، والذي نسعى كسوريين إلى ضرورة استعادته وجعله سورياً خالصاً يستوجب علينا وعلى كل القوى السورية المؤمنة بالديمقراطية والمواطنة أن ينطلق من رفضنا لأشكال التدخل الخارجي السياسي والعسكري سواء كان على شكل جيش دولة إقليمية أم مجرد عناصر مليشيات أجنبية. إن هذا الرفض لا يقتصر، ولا يجب أن يقتصر، على التدخل الأجنبي ذو الأيديولوجية الدينية بل وأن تشمل أيضاً الأيديولوجية القومية.
أدت سياسات قسد ووحدات الحماية الشعبية على وجه الخصوص والتي تسيطر على شمال شرق سوريا إلى استدراج متزايد للتدخل التركي واحتلاله وقصفه لقرى وأراض سورية وتهجير سكانها. إن قصر نظر قسد ووحدات الحماية الجيوسياسي يجر البلاد إلى ارتهانات أعقد وتمزق مجتمعي متزايد كان قد بدأه النظام السوري وساهمت فيه كل القوى والمليشيات الموجودة والمستمرة بفضل القوى والعناصر الأجنبية.
لا توجد رغم كل المعطيات الحالية، أية مؤشرات ملموسة حول التقارب السياسي بين تركيا والنظام السوري في المستقبل القريب غير أن من المهم ذكره أن سياسات قسد ووحدات الحماية تزيد من احتمالية هذا التقارب وإن اقتصر على تعاون أمني رسمي بين الأخيرين على غرار الاتفاق التركي العراقي ١٩٨٣ والذي جعل من الأكراد العراقيين “الضحية الوحيدة”. يمكن القول اليوم أن تركيا أصبحت من أهم، إن لم يكن أهم، لاعب في الملف السوري وذلك نتيجة لحسابات جيوسياسية تتمثل خصوصاً في الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات الاقتصادية المتزايدة على كل من طهران وموسكو إضافة إلى عدم الاستقرار الداخلي في إيران. ويدل تصرف الحكومة التركية في عدة ملفات (آخرها الحكم على إمام أوغلو محافظ اسطنبول المرشح لرئاسة الجمهورية بالسجن والحرمان من الحقوق المدنية) على أنها غير آبهة لا بالمواقف الدولية ولا الإقليمية أو الداخلية، وأن كل الأنظار موجهة نحو إعادة انتخاب سلسة للرئيس أردوغان. من هنا المحاولات الأمريكية والروسية لتقديم حلول وسط تحول دون هجوم عسكري كبير ولو بتقديم هدايا مقابل بعض هدايا الترضية للرئيس التركي.
يضاف إلى ذلك، الأثر الذي قد تسببه الحرب التركية على عناصر حزب العمال والمتعاطفين معه في سوريا والمتمثل في إعادة عناصر تنظيم داعش لجزء من قوتها. لقد شهدنا تضارباً واضطراباً في المواقف، مثل إعلان قسد لتوقيف التنسيق لعملياتها مع التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة ضد التنظيم احتجاجاً على القصف التركي ثم تنسيقاً عسكرياً ميدانياً مع القوات الأمريكية؛ مطالب أمريكية خاصة بإرضاء الطرف التركي مثل إبعاد القياديين القادمين من قنديل من شرقي الفرات في وقت تدعم به كل ما يتعلق بتسليح الكرد في كردستان إيران؛ وترك قسد العديد من المناطق ذات الأغلبية الكردية، وهذا بالتفاعل، وأية مفارقة، مع مبادرة روسية بهذا الإتجاه.
إن اقتصار الرؤية السياسية على مصالح حزبوية كان ومازل يزيد من تعقيد الأزمة السورية ويجعل منها مسألة إقليميةً ودوليةً على حساب المصالح الوطنية لمكونات الشعب السوري وأمنهم.
إن رفض التدخل الأجنبي لا يأتي مجزأً أو مفصلاً على قياس حزب أو آخر، كما أنه لن يكون هناك ممارسة ديمقراطية من دون العمل على قيم المواطنة التي تستدعي بالضرورة
وقف البروباغندا الأيديولوجية قوميةً كانت أم طائفيةً مذهبية.
منذ سيطرة العنف والحرب على الثورة، جرى اغتيالها الجماعي من كل من تبنى هذا المسار التسليحي، وصارت خيارات الحركة الديمقراطية المدنية للأسف بين السيء والأقل سوءاً، إلا أن هذا لا يعني أن نفقد البوصلة الأساسية، بوصلة السيادة والمواطنة والديمقراطية، المفترض بها، أن لا توقعنا طرفاً في صراعات أطراف مسلحة، ودول محتلة، ليس على أجندتها هذا الثلاثي الأساسي لخلاص السوريين.