جيوبوليتيكا” الدوائر المتقاطعة… سورية في عالم متغول

المحتويات

ملخص

1- مشكلة البحث

2- فرضية البحث والتساؤلات

أولًا: عوالم متوازية وسياسات تحت النقد

  • 1- في نقد العولمة
  • 2- الجيوبوليتيكا والنظرية الرابعة في السياسة
  • 3- قراءات حديثة في الجيوبوليتيك
  • 4- النظرية السياسية الرابعة وعودة الجيوبوليتيكا الروسية

ثانيًا: سورية الدوائر المتقاطعة وخطوط التماس الجيوسياسي

  • 1- الدوائر الجيوبوليتيكية الروسية
  • 2- خطة سلام أم توجه جيوبوليتيكي أميركي؟

خاتمة؛ حول رؤية جديدة لعالم اليوم

المصادر والمراجع

ملخص

كان من الممكن لما يسمى بالنظرية السياسية الرابعة، للكاتب الروسي ألكسندر دوغين، أن تبقى محض نظرية سياسية في إعادة تكون الإمبراطورية الروسية تخص تطور دولة ومجتمع بذاته في مواجهة النظام العالمي بقطبيتة الوحيدة من منظار العولمة. لكنها حين وضعت في مسارات التطبيق والتنفيذ برهنت على تناقضاتها بمضمون حيثياتها الأنثروبولوجية والتاريخية والجغرافية، فحيث كان يرتقب العالم إمكان التحرر من رقبة السوق المالية العالمية وأدوات تحكمها وسيطرتها على مكونات العالم ووحداته، أتت النظرية الروسية الجيوبوليتيكية في مسار معاد تمامًا لمقومات وجودها النظري أساسًا، خصوصًا في مواجهة مد ثورات الربيع العربي وخصوصًا في سورية.

الدراسة الحالية لا يمكن أن تكون سياسية محضة ولا فكرية نظرية وحسب، إذ لا يمكن التعامل مع كتاب نهاية التاريخ لفوكوياما بوصفه كتابًا نظريًا فحسب كما حاول فلاسفة الحداثة وما بعدها عبر يورغن هابرماس، بالمثل أيضًا لا يمكن الوقوف على مدخلات الجيوبوليتيكا الروسية نظريًا وفكريًا، بل تتعداها إلى محطات المرحلة السياسية العالمية اليوم وتعقيدات مشهدها وبخاصة في موضوع المسألة السورية.

تبرز المسألة السورية بوصفها نقطة ارتكاز رئيسة لاكتمال الدائرة التطبيقية للجيوبوليتيكا الروسية، بينما تراوح مسارات العولمة في تذبذب وتردد منها، واضعة شرطين في الأفق المنظور: عدم السماح لروسيا بتثبيت وجودها العالمي المنفرد بوصفها قطبًا جديدًا، وإن لم يكن بالإمكان ذلك إلا بخوض حرب عالمية ثالثة، وهذا مستبعد كليًا، فهو تقييدها في المسألة السورية وعدم السماح لها بتثبيت حلولها السياسية دوليًا وأمميًا حتى وإن ثبتت حلولها العسكرية بالانتصار على الثورة. الشرط الثاني إعادة ترتيب أقواس التحالفات الدولية وفرض شروط التحكم والسيطرة الاقتصادية والمالية في دوائر توسع الوجود الروسي.

سورية، والثورة السورية هي نقطة الالتقاء، بل خط التماس بين الدائرتين، ومقومات شعبها وثورته في محك تجريبي كبير أمام نفسها، وفي موازاة نظريات الهيمنة الكبرى، ويبدو هذا ليس قولًا نظريا فحسب بل مفصلًا تاريخيًا يستلزم الوقوف عنده.

فحيث لن تكتفي الدراسة الحالية بالطرح النظري وحده في الدراسة، بل ستذهب باتجاه مقاربة في الحلول الجيوسياسية الممكنة للمسألة السورية، بين مسار روسي يمر من حلب إلى البوكمال لسوتشي، وآخر ما زال ممكنًا، على الفكر السياسي أن يقارب رؤيته حوله وفق شرطي: الثورة السورية لم تعد سورية فحسب بل مفصل عالمي كبير وتنازع سياسي قد يتطور إلى عسكري، والثاني مفاده الخروج من دوائر العطالة السياسية إلى فضاءات الاحتمالات الممكنة وكيفية توقع إحداها بخلاف غيرها.

1- مشكلة البحث

تذهب كثير من الدراسات السياسية والسياسية الفكرية للبحث في مآلات الربيع العربي بعامة، والسوري بخاصة من بوابات عدة، كل بوابة تحاول إضاءة نقدية مرة، وتوصيفية في أخرى، وتحليلية أو تفكيكية، تحاول جميعها تلمس مجريات المرحلة ومساراتها. المرحلة التي تحولت من مسارات ثورات شعبية نازفة وهادرة، كان يمكن لأقلها في أي من دول العالم المتقدم أن تغير كل حكومته وتعيد إنتاج بيئته أو نظامه من أساسه. هذه الثورات الوطنية هدفت في مضمونها وروافعها إلى الوصول إلى التغير الوطني واسترداد الدولة من نظم العسكر وحكوماتهم الأمنية، وليس ذلك وحده، بل إلى دخول بوابة العصرية والدولة العصرية، دولة الحقوق والمواطنة والعيش الكريم والحر، الذي يحقق لأبناء المجتمع الرفعة والتقدم، بحيث يصبحون كأقرانهم في باقي دول العالم المتقدم أيضًا.

مسارات هذه الثورات وانعطافاتها وتعدد مراحلها وتأخر حسمها السياسي، جعلها مجال تأويل وتفنيد متعدد الأوجه، من جلد الذات، لنقد البنى المجتمعية، لتحميل المسؤوليات الجسيمة لواقع تأخر أمةٍ وترهلها عن المضي بسبل الحضارة والإنسانية، إلى كثير من طرائف المؤامرة ومشروعات الممانعة والمقاومة الزائفة. لكن المسار الأوضح والأعم وبخاصة في المسألة السورية، في أنها تحولت من موضوع ثورة سورية محلية إلى محط تنازع إقليمي ومن ثم دولي، يعكس في طياته ملامح أزمة عالمية في قيمها العليا المعلنة من حريات وحقوق، وفي مرجعياتها المسندة الاقتصادية والعسكرية والسياسية.

الثورة السورية باتت فوق سورية، وموضوع صراع بالأدوات بين نظامي العولمة بقطبتيه الأميركية الوحيدة، والقوة المفرطة للجيوبوليتيكا الروسية العائدة إلى الساحة العالمية بقوة, تتكثف في سورية وعلى حساب شعبها، لتقف كل من موقعتي سوتشي بمرجعيتها الروسية وجنيف بمرجعيتها الأممية الدولية بينهما في صراع سياسي كبير ينذر شرًا على أي خرق في خطوط التوازن الممكنة بينهما، أو ما أسماه ألكسندر دوغين -المنظر الأكبر للنزعة “الأوراسية” الروسية وصاحب مؤلفات عدة في هذا السياق-  توازن الرعب العالمي من خلال خطر الحرب المباشرة التي تؤدي إلى حرب نووية تفني الجميع، ما جعل إمكان فرض حلول سياسية ممكنة ما دونه، بواقع كبير من التغول في العنف عندما تتدخل قوة عظمى في منطقة حتى لو لم يرض الطرف الآخر عنه، هذا ما فعلته أميركا سابقًا في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى عالمية وتحاوله اليوم روسيا في سورية.

في الدراسة الحالية، ثمة محاولة سياسية فكرية، لا يمكنها أن تكون نظرية محضة ولا سياسية أداتيه فحسب، لتلمس هذه المتغيرات في مسار الثورات الوطنية في الربيع العربي وخلاصة كثافتها في سورية، في محاولة لتفسير العجز العالمي والدولي عن إنصاف شعوب المنطقة والوقوف معها بحزم نحو تحقيق أهدافها في بناء الدولة الوطنية. فحيث يبقى جانب التحليل الفكري المنفرد قاصرًا عن رؤية كامل الحقيقة، لا لعيب في ذاته أو في منطقه، بل لأنه حمال أوجه قيمية وإنسانية أثبتت عجزها وفشلها عن الانتصار لمظالم ملايين السوريين المشردين والمهجرين سوى بالبيانات ولجنات التوثيق المعطلة عن العمل الفعلي. هذا النقد للموضوعة العالمية بشكلها المعولم، هو ذاته ما يحاول طرحه مفكري الحداثة في الدول المتقدمة، أمثال يورغن هابرماس، في محاولة للخروج من شرنقة العالم المعولم و”المشيء” ماديًا، أو الهيمنة الكلية الكبرى لنظم رأس المال العالمي وآليات توطينه المحددة بيد القلة من الشركات العالمية فوق – دولانية، أو ما تسمى بمتعددة الجنسيات ونظام عملها في السوق العالمية. ومن جانب آخر لا يمكنها أن تكون سياسية وحسب كونها تتعدى الحدث السياسي الراهن وتتجاوز موضوعتي السياسة فن الممكن وإحالاته الأخلاقية عبر الفكر والمضمون من جهة، وفن المراوغة والكذب التي تحيل على فكرة المؤامرة التي يشوبها كثير من الشك وعدم اليقين.

عليه، كانت الدراسة الحالية محاولة تحمل طابع المجازفة في تتبع سبر التحولات العالمية وأثرها في الثورة السورية ودول المنطقة، من حيث إن ثمة تغيير في المنظومة العالمية وشكل إدارتها لمواقع نفوذها، لطلباتها من دول المنطقة، لآليات ترسيمها لحدود أمنها القومي أو ما يسمى جيوبوليتيكيًا بالمجال الحيوي. والمجازفة هنا في ما قد يأتي من قراءات جيوبوليتيكية أدناه، عدّت ولوقت قريب نادرة أولًا، وقليلة التبني السياسي في مستوى الدول وصناعة قرارتها ثانيًا، لكن وبقليل من التفتيش والتحديق في المسارات الحالية تبرز إلى السطح مقولة عودة عصر الإمبراطوريات الكبرى وتبدل مواقع التحالفات الدولية الذي يذكرنا بعصر نشوة الجيوبوليتيكا ما قبل وما بين الحربين العالميتين في أواخر القرن التاسع عشر.

من هنا ثمة محاولة لمقاربة المرحلة الحالية من الوضع العالمي في أشد لحظات صراعه منذ انتهاء الحرب العالمية الباردة بين معسكري الاشتراكية المزعومة والرأسمالية في وقتها، والتحول إلى ما بعدها بما يسمى بالنظام العالمي الجديد والعولمة، وأثر هذه اللحظة العالمية من الصراع على المسألة السورية ومساراتها أيضًا.

2- فرضية البحث والتساؤلات

كانت فرضية التغيير الديمقراطي بمعناها العريض هو التحول إلى دولة وطنية عصرية، تتبنى الحريات والحقوق الدستورية على شاكلة ما ورد في أدبيات العصر الحديث من دول مستقرة تحترم الدستور وتكفل الحقوق وتسعى للسلم العالمي. هذا الفرض الضمني الذي راكمته موضوعتا المدنية والمواطنة على الصعيد الثقافي قاد كثيرًا من السياسيين والمفكرين إلى اعتقاد سلاسة نجاح الثورة وسهولته على الشاكلة التونسية أو المصرية، فكانت المفاجأة الكبرى في سورية، نمو في التطرف واستدعاء لقوى الشر الإرهابي والتطرف الديني والمذهبي كافة، وأيضًا تدخل دولي روسي كثيف ومتغول، بينما العالم الغربي، المفترض أن تحاكيه ثورات الربيع العربي في نموه واستقراره، شبه متفرج إن لم يكتفِ بإدارة اللعبة من بعيد، هذا إن لم يشارك أيضًا فيها.

هنا كان سؤال الدراسة في المبدأ، إذا كانت ثورات الربيع العربي تنحو منحى الدول القومية الحديثة والعصرية، فأين كانت تلك الدول منها؟

هل استطاعت العولمة ببعديها الثقافي والسياسي – الاقتصادي المساعدة في تحقيق الثورات أهدافها، كما تلك التي سميت بمجموعة أصدقاء سورية؟ وهل كانوا جادين في سياستهم تجاهها؟ أم كانت محض تبرئة ضمير أمام الرأي العام المحلي لدولهم؟

في حال افترضنا أن ثورات الربيع العربي وفي سورية بخاصة، كانت “حربًا أهلية” كما سماها كثير من مراكز الدراسات الإستراتيجية، ألم يكن من المفيد لمنظومة العولمة والنظام العالمي عدم السماح لروسيا بشبه التفرد الجيوبوليتيكي في إدارتها للمسألة السورية وأن تصبح مفتاح حلها؟ وهل كان من الممكن تجاوز هذا الصدام المحتمل أو المفاجئ للمصالح الروسية والأميركية وإعادة النزعة التوسعية الجيوبوليتيكية المنتهية مع الحرب الباردة بينهما للعودة إلى الساحة العالمية سياسيًا وفكريًا؟

إن كان ثمة مواجهة محتملة بين الدول الكبرى ناتج هذا التدخل الروسي المباشر في سورية، جعلت العالم المعولم ينسحب أمامها، فلماذا لم تأخذ هذه الدول ثورات الربيع العربي، وبخاصة السورية، بين طياتها كما كان يفترض أو تزعم، قبل أن تعلن روسيا فرض هيمنتها على مسارها وتزيد في عنفها وتغولها وتنذر بحرب كبرى ثالثة وتوطيدًا للفكر السياسي الجيوبوليتيكي والمسمى نظرية رابعة في السياسة نظريًا وعمليًا؟ من ثم هل يمكن أن تمثل الجيوبوليتيكا حلًا للمسألة السورية وبداية تقليص وقضم للمنظومة العالمية المتمثلة بالعولمة؟

يقول فرانكو موريتي: «هي إنذار بنهاية ثقافة القرن التاسع عشر الثقافية، فلم تكن ولادة أدب الرعب إلا من رعب مجتمع منقسم، ومن الرغبة في مداواته على وجه التحديد, وهذا هو السبب في أن دراكولا و فرنكنشتين لا يظهران معًا، إلا في حالات استثنائية ونادرة، وإلا لبلغ التهديد والرعب حدًا رهيبًا،  فهذا الأدب وقد أحدث الرعب لا بد أيضا أن يبدده ويحدث السلام»([1])، وعليه هل عودة روسيا البوتينية إلى موقع الصراع العالمي المباشر، في ظل هيمنة عالمية أحادية القطب وظهورها المجاور لنظام العولمة الاحتكاري في زمن الثورة السورية، تعيد ثقافة الرعب العالمي تلك التي سادت في نهايات القرن التاسع عشر، وأدت إلى حربين عالميتين كارثيتين، تشي اليوم بما يشبه الأمس، وتكرس ثقافة الرعب من جديد بدلًا من ثقافة الحرية والسلام؟ وهل تدفع الثورة السورية الثمن الأكبر في ذلك؟ أم ثمة مسارات أخرى ستأخذها إليها الجيوبوليتيكا الروسية الصاعدة في مسارات العولمة والعالم الجديد؟.

أولًا: عوالم متوازية وسياسات تحت النقد

أرست نهاية المنظومة المعروفة بالاشتراكية في أواخر ثمانينيات القرن العشرين نمطًا جديدًا من العلاقات الدولية، قامت في أساسها على انتصار المنظومة الرأسمالية بقوانينها الاقتصادية والسياسية في مستوى عالمي. ولم تتأخر عنها أبدًا الانتصارات الفكرية المبشرة ببداية عالم جديد تعم فيه ثقافة كونية واحدة تحت مسمى العولمة (Globalization)، عالم بلا حدود بحسب تعبير كانيشي أوهما Kenichi Ohama في كتابه ” “The borderless world ([2])، الذي حدد على أساسه رؤية العالم الجديد «On a politicalmap, the boundaries between countries are as clear as ever. But on a competitive map, a map showing the real flows of financial and industrial activity, those boundaries have largely disappeared، حيث إنه على الرغم من وجود الحدود الطبيعية بين الدول، لكنه في عالم السياسة وخريطة التنافس الاقتصادي والصناعي هذه الحدود مضمحلة وزائلة» ([3]). العولمة مصطلح جرت دراسة اشتقاقاتها اللغوية وأسسها ونواظم عملها من مصادر عدة، كان أهمها العالم عندما يكون موحدًا. ومهما اختلفت تلك المصادر في الدراسة والتحليل إلا أنها جميعها تتفق على أن العولمة منظومة عصرية في أنماط المعيش والحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كنتيجة، وأهم ميزاتها أن تخضع لقوانين السوق العالمية التي تتجاوز الحدود الإقليمية للدول ذاتها «والعولمة اصطلاحًا تعني اندماج أسواق العالم في حقول التجارة العالمية وخضوع العالم لقوى السوق العالمية بما يؤدي إلى اختراق الحدود القومية والانحسار الكبير في سيادة الدولة لفائدة الشركات الرأسمالية الضخمة متعددة الجنسيات» ([4]).

في ملاحظات أولية على هذا الانتقال إلى وحدة عالمية في العولمة، أو النظام العالمي الجديد، التي يمكن تفنيدها منفردة لكنها جميعًا مترابطة مع بعضها في سياق تحولات عالمية كبرى وصفها صموئيل هنتنجتون «خلال العقد الماضي تغيرت السياسة العالمية جوهريًا من ناحيتين: أولًا أعيد تشكيلها على أساس مسارات ثقافية وحضارية، وثانيا تتغير العلاقات الدولية على أساس أن السياسة العالمية تدور حول القوة والصراع» ([5]). وهذه ما يمكن وضعها في سياق الدراسة مبدئيًا بالنقاط الآتية:

  • محاولة إرساء ثقافة الديمقراطية الليبرالية بوصفها ثقافة عالمية واحدة، بحسب ما افترضها فوكوياما فالديمقراطية الليبرالية هي “أرض الميعاد” بحسب قوله «الأيديولوجيا التي يمكن أن يقنع العالم كله بصلاحيتها هي الديمقراطية الليبرالية» ([6]).
  • ترسيخ مفهوم الدولة الوطنية بمؤسساتها وقوانينها الوضعية والحقوقية والتحول معها لترسيخ ثقافة حقوق الإنسان العامة ومفهومات المجتمعات المدنية وحرية تداول السلطات وحق الاقتراع العام، ووضع جداول السلامة العالمية لحرية الصحافة وانتهاك حقوق الإنسان وتصنيف الدول في مجالات التعليم والصحة ونزاهة العدالة وغيرها من المفهومات الإنسانية العامة في كونية ثقافتها العلمية والمعرفية.
  • الانتقال في سياسات السوق العالمية إلى الشركات العالمية متعددة الجنسيات في شكل وحدات مالية تتجاوز حدود القارات والدول، بما تفرضه من شروط اقتصادية على دول العالم جميعها، ما أسس لاتفاقات حرية التجارة العالمية، وفتح الأسواق العالمية للتنافس الحر، وهذا ترافق مع ثورة التكنولوجيا والاتصالات.
  • العالم الذي استقر لزمن طويل على مثنوية عالمية، على قطبين متنافرين في حرب طويلة باردة يخشى حرب عالمية ثالثة كبرى، حبس أنفاسه حين أرست العولمة عالمًا واحدا باتت تنظّر له منذ ذلك الوقت إذ جرى التحول من إدارة الصراع العالمي جيوسياسيًا بين إمبراطوريات كبرى متنافسة، إلى انفراد قوة عظمى وحيدة به هي الولايات المتحدة الأميركية.
  • سارعت الولايات المتحدة الأميركية لفرض شروطها الدولية على المنظومة العالمية سياسيًا وعسكريًا من خلال حروبها المتتالية في أماكن متعددة من العالم في شكل تحالف دولي كبير تقوده بنفسها على تركة الاتحاد السوفياتي السابقة([7]) ، ولكن هذا لم يجعل العالم أحادي القطب كلية في شقه السياسي والاقتصادي، فإضافة إلى التفاوت الكبير بين منظومة العالم المتقدم تكنولوجيا وما يسمى بالعالم المتأخر والمستهلك، بقيت هناك أحلاف أخرى تدور في فلك المنظومة ذاتها وتسعى لحجز مكان لها على خريطة العالم، كان أهمها محاولات الاتحاد الأوروبي وصراعها البيني والضمني مع الولايات المتحدة وروسيا الدولة التي تسعى لاستعادة مكانها بالعالم، ما جعل إمكان حل المشكلات العالمية بطرائق سياسية ودبلوماسية مع استخدام العقوبات الاقتصادية في الترويض والتحكم، والابتعاد الكلي عن موضوع الصراع العالمي المباشر الذي ينذر بحرب لا تحمد عقباه.
  • نمو ثورة التكنولوجيا والاتصالات بشكل متصاعد وما رافقها من قوة الإعلام وهيمنته على وسائل الاتصال، التي تطورت مع الشبكة العنكبوتية، وما بات يسمى اليوم وسائل الاتصال الاجتماعية Social Media. هذا النمو الكبير رسخ ما تنبأ به العالم الكندي “مارشال ماكلوهن” مبكرًا في تحول العالم لكون صغير أو قرية كونية([8])“Global Village” إلكترونية صغيرة تحاول أن تشكل ثقافة واحدة عالمية، لكنها لم تستطع أن تحقق ذلك لليوم، وكانت ثورات الربيع العربي والثورة السورية بخاصة أكبر محطات هذه الثقافة ووضعها تحت المحك في فشلها في استيعاب ثوراتها في سياق التحرر الوطني وحق تقرير مصير الشعب، وظهر هذا بوضوح شديد جدًا في مسألة استخدام السلاح الكيماوي السوري المحرم دوليًا الذي يخرق القانون الدولي وصفقته المشبوهة، بينما كانت تقارير طوني بلير بعد سنوات عدة من غزو العراق تعترف بخطأ ما فعلوه أيام غزوه بحجة امتلاكه لأسلحة الدمار الشاملة. فثقافة العالم المتقدم الذي نظر لها فوكوياما وغيره تظهر تعاملها بمنظار المصلحة المحضة مع دول المنطقة لا بمنظار الجنة المزعومة لحقوق الإنسان وحق تقرير المصير، ما يجعل العولمة وثقافتها محط شك وتساؤل كبيرين.

قبل الخوض في تفصيلات الحالة السياسية العالمية اليوم، وكتوطئة أولى، أنه منذ أعلن بوريس يلتسن في 26/9/1991 اتفاقية حل الجمهوريات السوفياتية، إثر سياسة غورباتشوف، آخر رئيس في الاتحاد السوفياتي السابق، الداعي إلى إعادة البناء (البيروسترويكا) ونهاية الحرب الباردة مع الولايات المتحدة الأميركية، تقهقر الاتحاد السوفياتي من موقعه بوصفه قطبًا عالميًا ثانيًا وتحلل إلى جمهورياته الأولى، لتفرض الولايات المتحدة الأميركية شروط اللعبة العالمية وحيدة القطب في ما يسمى نظام العولمة الكبير، لتدير دفة العالم بطريقتها الوحيدة وتتراجع روسيا، خليفة الاتحاد السوفياتي السابق، إلى موقع الدائر في فلك النظام العالمي ولكنه الباحث عن استعادة دوره العالمي من جديد. فهل بقيت روسيا قانعة بدورها الطرفي في المعادلة العالمية؟ وهل بقي الكون على وحدته المفترضة؟ أم ثمة عوالم تتشكل وثمة عودة أخرى لصراع الأمم الكبرى وفق قواعد لعبة جديدة وشروط تفرضها المتغيرات العالمية التي قامت بها روسيا في سورية وفرض شروطها العسكرية وبالضرورة السياسية عالميًا بطريقة تعيد شروط التنافس الجيوبوليتيكي لواجهة الصدارة العالمية؟ سؤال مهم في عالم اليوم وعواقبه العالمية من جهة والخاصة بالثورة السورية بالضرورة من جهة أخرى.

1- في نقد العولمة

على الرغم من النقاط المطروحة أعلاه بوصفها بعدًا عالميًّا يسعى لأن يصبح موحدًا عالميًا ومع الانتشار العلمي التقني العام ووصوله للكرة الأرضية كلها، إلا أن العولمة لم تشكل ثقافة كونية بعد، ولم يصبح العالم متجانسًا كليًا لا ثقافيًا ولا سياسيًا ولا اقتصاديًا، بل ثمة ما يقلق الإنسان، وثمة ما يجعله متوجسًا من هذه الأبعاد المتفاوتة في سير تطور البشرية المفترض، ما جعل بوابات نقد العولمة قائمة على الدوام. فالعولمة، التي شكلت بالنسبة إلى عصر الأنوار، عصر الحداثة والحريات، عصر حقوق الإنسان والتقدم العلمي، معطىً حياتيًا  وثقافيًا عامًا بدول العالم المتقدم، كصيرورة عامة، حيث ثقافة الحريات والقوانين الوضعية ودولة المؤسسات المتشكلة وفق عقد اجتماعي عنوانه العريض: الدستورية وثقافة الليبرالية مع تقدم علمي متقدم منذ الآلة البخارية وصولًا إلى ثورة التكنولوجيا، إلا أنها ذاتها قادت إلى حروب إقليمية كارثية كما في أفغانستان والعراق وفي دول البلقان تحت ذرائع متعددة أهمها الحرب على الإرهاب، العدو المفترض البديل عن الاشتراكية المنهارة، ما جعل التناقض العالمي ينمو أكثر اتجاهها بين ما تعلنه ثقافيًا وفكريًا وتروج له إعلاميًا وسير الواقع على الأرض خصوصًا خارج حدود توضعها السياسي في دول منشئها الأساس.

إضافة إلى هذا فقد شكلت العولمة وثورة الاتصالات الرقمية في الوقت ذاته جملة من العلاقات المادية والرقمية باتت ترهق كاهل المواطن في ظلها، ما دفع كثيرين من مفكري العالم وفلاسفته إلى نقدها معرفيًا والعمل على تشكيل تيارات فكرية تعمل على فك هيمنتها المادية والتقنية على الحياة ثقافيًا وفكريًا، كما عند إنسان هيرمان هيسه في روايته ذئب البوادي (ذئب السهوب) ([9])، أو عند كتابات روجيه غارودي في (الإرهاب الغربي) ([10]). وذهب كثيرون من مفكري النظام العالمي ذاته إلى التحذير من خطر ثورة التكنولوجيا بذاتها، بوصفه خطرًا يهدد البشرية جمعاء لما له من قدرات تقنية عالية في مستوى صناعة السلاح «القرن العشرين أنتج أسلحة قادرة لأول مرة في التاريخ، أن تبيد كل أثر للمدنية على وجه الأرض»([11])، وليس في البحث عن قدرات إنتاج مادية متقدمة تقنيًا وعسكريًا فحسب تشكل أدوات سيطرة وهيمنة، بل في صناعة الرأي العام عبر الإعلام والترويج لأهدافها عبر امتلاك القدرة على الوصول إعلاميًا إلى الكل البشري «هذا إن دل على شيء فهو يدل على الطريقة التي يدار بها نظام جيد لتصنيع الإجماع في نظام دعائي جيد»([12]).

حاول الفكر البشري الناقد للعولمة الوصولَ إلى نظريات تستطيع الجمع بين المعرفة الإنسانية والتقنية كأدوات لمصلحة الإنسان بوصفه ذاتًا متعينة وليس شيئًا أو رقمًا، عليه امتلاك مقومات وجوده الإنساني والعمل على فك هيمنة التقنية والعولمة كنظام مكتمل «التناقض بين الميل الوطني والميل الاتفاقي للتكيف مع التوسع الرأسمالي، هو تناقض داخلي لطبقة يتغلب فيها طابع الوحدة»([13])؛ بينما يذهب تيار الحداثة الغربي باتجاه التأسيس لعقل إنساني يقوم على فك أسوار التواصل الرقمي والمؤتمت المهيمن، والذهاب باتجاه التواصل الإنساني مباشرة عبر اللفة ومحتواها الإنساني والعقلي والمفهومي، إذ «تتكون القواعد التقنية أولًا ضمن التواصلية اللغوية، ولكن ليس لديها ما هو مشترك مع القواعد التواصلية للتفاعل. ففي الأوامر المشروطة التي يخضع لها فعل أداتي، وتنتج من جانبها من مجال خبرة العقل الأداتي، تدخل فقط عَليّة الطبيعة وليس عَليّة القدر» ([14]).

2- الجيوبوليتيكا والنظرية الرابعة في السياسة

بداية، من المفيد ذكره، أن تلك الكتب والمقالات العربية التي تبحث في علوم الجيوبوليتيكا “الجيوسياسية” بوصفها علاقات سياسية دولية هي كتب نادرة، ومعظمها على ندرتها تدرس العلاقات الدولية بمواقع حدوثها أو حدوث حروبها والتنافس الدولي فيها، هذا مع أن هذا المفهوم بقي سائدًا إلى اليوم على أنه ذاته علوم الجغرافية السياسية. ففي الخلفية التاريخية برز علم الجيوبوليتيك في القرن التاسع عشر، متجاوزًا ما كان يسمى بالجغرافية السياسية قبله، وذلك في مرحلة التمهيد لصراع عالمي كبير، مرحلة نمو القوميات وبروز قواها المهيمنة، وهي المرحلة التي مهدت لاحقًا لكل من الفاشية والنازية والشيوعية كأيديولوجيات شمولية كبرى تسعى للتوسع والهيمنة العالمية وعقد التحالفات خارج حدودها الطبيعية، في حيز صراع متنامٍ في ما بينها من جهة، وكل منها منفردة مع الأيديولوجية الليبرالية الديمقراطية التي باتت أكثر انتشارًا وترسيخًا في أوروبا حينها.

تذهب علوم الجيبوليتيكا بعمومها إلى دراسة الدول في محيطها الحيوي، أو  السياسي، عبر مداخل عدّة منها: التاريخية، والإقليمية، والوظيفية، وعلوم الاجتماع والإنسان الاجتماعي (الإنتروبولوجيا) بحيث تتضمن مجموعة كبيرة من المفهومات تحدد شكل وجود الدولة السياسي وحدود علاقتها في محيطها الحيوي، وآليات تشكيل تحالفاتها والبحث عن توفير مواردها وأسواقها وكيفية تأمينها، وذلك بصورة تتجاوز حدودها الطبيعية التي تحدده مفهومات الجغرافية السياسية ضمنها إلى حدودها السياسية المتوسعة أيضًا؛ وبالضرورة وضع خططها الإستراتيجية والدفاعية في هذا السياق. فبينما اهتمت العلوم الجغرافية بالحدود الطبيعية للدول وشكل تضاريسها، ذهبت الجغرافية السياسية إلى الاهتمام بوجود الدولة السياسي ضمن حدودها الطبيعية وتباينها عن غيرها، لكن الجيوبوليتيكا أتى علمًا مختلفًا اشتق مبدئيا من الجغرافية السياسية وذهب باتجاه وجود الدولة السياسي خارج حدودها الطبيعية، وهو العلم الذي ظهر بقوة في نهايات القرن التاسع عشر قبيل تشكيل التحالفات الكبرى التي قادت إلى حربين عالميتين كبيرتين في بدايات القرن العشرين.

من المفيد هنا تحديد الفارق بين علوم الجغرافية السياسية Political Geography، وعلوم الجيوبوليتيكا “الجيوسياسية” Geopolitical، إذ يذهب كثير من الباحثين إلى عدّ أوغست كونت في نهايات القرن الثامن عشر بأنه الأب الفعلي لمفهوم الجغرافية السياسية في مرحلة تشكل مفهوم الدولة الحديثة وأساسيات بنائها الاقتصادي والسياسي والوضعي (الحقوقي والقانوني)، لكنها بقيت في مضمار البحث عن وجود الدولة في حدودها التاريخية والطبيعية كأمة وفق مسار تطور الثورة البرجوازية والفكر الليبرالي في وقتها. إلا أن هذا المفهوم تطور مع فرديردك راتزل في نهايات القرن التاسع عشر الذي يعزى إليه مفهوم المجال الحيوي للدولة، الذي يعني إمكان توسع الدولة سياسيًا خارج حدودها الطبيعية؛ فبينما تحدد الدولة في علوم الجغرافية السياسية بوصفها كائنًا مستقلًا ومستقرًا بذاته في حدوده الطبيعية وبعلاقاته الدولية، تحدده الجيوبوليتيك بوصفه كائنًا متحركًا خارج حدوده ويسعى لامتداده وتوسعه. من بعده اشتق تلميذه  Johan Rudolf Kjellén([15]) في بدايات القرن العشرين مفهوم الجيوبوليتيكا بشكل أكثر عمقًا عن مفهوم الجغرافية السياسية، إذ كان المؤسس لفكرة إمكانية إنشاء التحالفات السياسية للدولة خارج حدودها الطبيعية، فـيمكن للدولة أن تتزحزح حدودها السياسية والطبيعية حتى تحصل على توافق بين مفهومي الدولة والأمة، بحيث تضمن قوة وجودها في صراع الأمم معتمدة على سكانها وحضارتها واقتصادها وأراضيها «الدولة في نظر كيلين، الجغرافي السويدي وتلميذ راتزل، كائن حي، يعتمد بقاؤها على سكانها وحضارتها واقتصادها وحكومتها وأراضيها، كما تنبأ، كيلين، بزوال الإمبراطوريات البحرية وانتقالها إلى الدول البرية التي سوف تسيطر بدورها على المسالك المائية. وتعدّ الحرب العالمية الأولى نقطة تحول كبيرة نحو زيادة العناية بالجغرافية السياسية» ([16]).

بلغ الجيوبوليتيك تطورًا ملحوظًا وواسعًا مع السياسيين الجغرافيين الألمان بعد الحرب العالمية الأولى والبحث عن انتصار يعدل كفة وجودها الحضاري، قادت إلى الحرب العالمية الثانية. ومن أبرزهم كان كارل هوسهوفر K. Haushofer، الذي كان أول من طالب بتوطيد العلاقات اليابانية الألمانية، وكانت أفكاره الجيوبوليتيكية، التي افترضت تقلص الدول ذات الهيمنة البحرية كبريطانيا وفرنسا أمام القوى ذات البعد البري والباحثة عن الممرات المائية فيها كألمانيا والاتحاد السوفياتي التي أخذ بها هتلر وبنى عليها تحالفاته السياسية قبيل الحرب العالمية الثانية ([17]).

3- قراءات حديثة في الجيوبوليتيك

في الكتاب الموسوعي، “الجغرافية السياسية في مئة عام” يقول كلاوس دودز وديفيد أتكنسون مؤلفي الكتاب: (أثارت الجيوبوليتكا عواطف شخصية وثورات فكرية منذ ظهور المصطلح في تسعينيات القرن التاسع عشر. ومنذ التعبيرات الأولى للجيوبوليتيكا من بداية هذا القرن، كان الأفراد الذين يستخدمونه مثل رودولف كيلين، وهالفورد ماكيندر، وهوسهوفر وأسياه بومان يحاولون باستمرار التأثير في السياسات القومية والدولية بنظرياتهم المتعلقة بالعالم المعاصر. وفي منتصف القرن العشرين، عندما قال الجغرافي الأميركي الراحل، ريتشارد هرتشهورن 1954 إن الجيوبوليتيكا كانت سماء فكريًا، تأكد الرأي القائل بأن التفسير الجيوبوليتيكي كان مرادفًا للتوسع النازي، وأن النظريات والاتجاهات المجموعة بعنوان الجيوبوليتيكا كانت محض علم “زائف” كاذب جلب بفساده السياسي عارًا على الجغرافيا الأكاديمية» ([18]).

الجيوبوليتيكا، علم يمكن وضعه بين قوسين، كونه في الأصل يخالف منطق التوجه الحديث للعلوم والنظرية المعرفية فيه “الأبستمولوجيا” الذاهبة الى التخصص والتخصص الدقيق، وذلك في ظل تطور العلوم بعامة بعد ثورة الاتصالات والتكنولوجيا التي ترافقت -كما أسلفنا- مع حدثين بارزين في ثقافة العصر الحديث وسياسته:

  • انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وبدء إضفاء ثقافة الليبرالية الديمقراطية في محاولتها لأن تكون ثقافة وحيدة عالميًا، محمولة على فكر الحريات والديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان وحق تقرير مصير الشعوب التي تشكلت على أساسه هيئة الأمم المتحدة وقوانينها الدولية.
  • التوجه العالمي إلى الاستفراد بشكل الهيمنة والقوة المادية والتقنية منها والعسكرية أيضًا لقوة واحدة عالميًا بعنوان عالم وحيد القطب، وذلك بشكل مترافق مع فورة ثورة الاتصالات والتكنولوجيا التي ساهمت مساهمة كبيرة في تقليص دوائر الهيمنة العسكرية المباشرة إلى إمكانات التحكم والسيطرة عن بعد، وليس فقط، بل فرض العقوبات الاقتصادية المباشرة على أي منظومة تخرج عن هذا السياق. لتبدو الحروب التي قامت بها الولايات المتحدة الأميركية بدءا من تسعينيات القرن الماضي على أنها نتيجة لعدم استجابة الدول لتلك العقوبات من جانب، وفرض القانون الدولي من جانب آخر ولكن بقوة أميركية منفردة، هي ليست حروبا جيوبوليتيكية محضة ولا معولمة فحسب، بل يذهب بعضهم إلى وصفها بإحداهما ويدرس نقاط توضعها كما في حروب البلقان وأفغانستان والعراق وبعض المواقع الأفريقية، لكن عمومًا تضاءل الاهتمام بالقراءات الجيوبوليتيية أمام العولمة ومنظوماتها المتوسعة.

وحيث لا يمكن الجزم بنهاية محددة لعلم الجيوبولوتيك، إلا أنها أثارت كثيرًا من الاشمئزاز العالمي ضدها، خصوصًا بعد أن شاهد العالم كوارثها في الحربين العالميتين. وثمة من يذهب إلى القول بأنها استمرت خلال الحرب الباردة بين السوفيات والأميركان، لكنها باتت أكثر تقلصًا وانكماشًا بعد نهايتها عام 1989، العام الذي أعلن فيه انهيار الاتحاد السوفياتي، واستفردت من بعده أميركيا بتحالفها الأوروبي على الهيمنة على القرار العالمي.

فبينما كان مفكرو الغرب الحداثيين كهابرماس وأرندت ودريدا وكافكا وغيرهم، يحاولون الخروج ثقافيًا من هيمنة القوة المادية للعولمة، كان صير من مفكري روسيا الاتحادية الرافضين للعولمة من جهة، وغير القانعين بدور روسيا العالمي الذيلي يسعون لوضع لمساتهم الأخيرة على ما يسمى بالنظرية السياسية الرابعة، والترويج لعودة الصراع الجيوبوليتيكي العالمي وفق قواعد لعبة جديدة متعددة المحاور «تبدأ النظرية السياسية الرابعة أي” نهاية الأيديولوجيات”  من بعد فشل المشروع الحداثي الغربي، إذ تقود الولايات المتحدة الأميركية المشروع الليبرالي بمنطقه الاحتكاري وتسعى لعولمته وفرض معاييره، والمصير المأسوي الذي أنتجته أيديولوجياته الثلاث الرئيسة  الليبرالية والشيوعية والفاشية، ولم تستطع حماية الشعوب، أو أن تضمن لها الرفاهية والسلام؛ فقد أفلست الليبرالية (النظرية الأولى) حين دفعت الإنسان العقلاني إلى الاغتراب والفناء والوهم بعدما فككت مرجعياته»([19]).

4- النظرية السياسية الرابعة وعودة الجيوبوليتيكا الروسية

أعادت الثورة السورية العالم إلى شكل جديد في العلاقات والتحالفات الدولية تذكر بما كانت عليه أيام ما قبل الحرب العالمية الأولى والثانية، فكل من التوسع الإيراني في الشرق الأوسط، وما تلاه من تدخل روسي مباشر عسكريًا في سورية، جعل نظام العولمة العالمي وعلى رأسه أميركيا يعود إلى المنطقة بطريقة عسكرية جديدة بعد أن أعلن أوباما انسحاب بلاده العسكري من العراق في أواخر 2011، ورفضه التدخل العسكري في سورية عند فضيحة السلاح الكيماوي السوري في أواخر 2013 بخلاف ما جرى في العراق عام 2003، فـ«So far, the year 2014 has been a tumultuous one, as geopolitical rivalries have stormed back to center stage، العام 2014 كان عامًا صاخبًا، إذ عصفت به عودة التنافس الجيوبوليتيكي وعودته إلى مركز الحدث، فكل من القوة الروسية أخذة بالتزايد، والصين أيضًا، وبدأت اليابان تميل بصورة متزايدة إلى الخطط الإستراتيجية هي أيضًا، وإيران أخذت بالتمدد داخل سورية بالتعاون مع حزب الله وذلك للسيطرة على الشرق الأوسط، ما يظهر عودة القوة التقليدية إلى لعب الدور الرئيس في العلاقات العالمية»([20]).

شهد العقد الأول من القرن الواحد والعشرون، وبعد انحسار روسيا الكبير عن الساحة العالمية بروز محاولات نظرية جديدة في الفكر السياسي، تبحث في اعادة هيكلة القرار السياسي العالمي، وتعيده إلى مربع التوازنات الكبرى التي كانت سائدة قبل الهيمنة الأميركية عليه. أحد أهم منظري النظرية السياسة الرابعة هذه، هو الروسي ألكسند دوغين ومن خلفه مركز كاتخيون للدراسات، وهو ذو نزعة عنصرية روسية، ويعدّ الأب الروحي لبوتين والمنظر الأول لضرورة كسر نظام العولمة عبر علوم الجيوبوليتيك «إنه عقل بوتين، فيما آخرين رأوا فيه نبي الإمبراطورية الروسية الحديثة، ومنظر “أوراسيا”، ذلك الحلم الذي رآه من قبل “شارل ديغول” عن أوروبا الواحدة من شواطئ الأطلنطي إلى جبال الأورال. فيعد “دوغين” من أوائل المفكرين الناقدين لفكرة القطبية الأحادية، ويرى إنها شر مستطير، إنه يرى هذا النوع من أحادية القطب بمنزلة إمبريالية جديدة» ([21]).

الفرضية الجيوبوليتيكية الجديدة لدوغين هذه تجاوزت فكرة الجغرافية والجغرافية السياسية، بحيث أعادت تعريف الجيوبوليتيك بوصفه خطابًا مناقضًا للهيمنة الأميركية ويسعى للتأسيس لصورة العالم بشكل جديد لبناء صورة مختلفة للسياسات الدولية. هذه الصورة الجديدة في السياسة أكّدت أن الجيوبوليتيك النقدي كإطار نظري أولًا ذو أهمية بحثية كبرى للإبداع السياسي، مختلف عن المدارس الكلاسيكية التي وطدتها العولمة وقوانينها، فهذه الفرضية البحثية تقول إن «مفهومات مثل: الهوية، الأمن والقرب الجغرافي والمسؤولية هي ليست محايدة لكنها غالبا ما تعكس تحيز المستخدمين لها في تعبيراتهم الذاتية. ومن ثم، ضرورة تجاوز دراسة ممارسات الدولة والتحرك نحو كيفية ترسيم الأساطير الثقافية الكامنة من وراء هذه الممارسات كأسطورة التفرد الوطني؛ فالتفكير الجيوبوليتيكي الجديد في روسيا ارتبط بالأوراسيانية Eurasianism المؤكدة على التفرّد والتميّز الثقافي عن العالمين الأوروبي والآسيوي، فهي بوصفها حركة فكرية وسياسية ظهرت خلال عام 1930 بداية، وعكست الحاجة المتوخاة لروسيا إلى التركيز على استقلالها النسبي الثقافي، الجغرافي والسياسي؛ وهو اهتمام باستقرار الحدود وإقامة محيط أوراسي متنوع عرقيا. ويعكس الموقف غير المتعاون مع الغرب الحاضر دائما في قلب الفلسفة السياسية الأوراسية) ([22]).

وضع دوغين أساسات نظريته السياسية الرابعة في كتب ومقالات عدة، وكان المستشار الرئيس لبوتين في عمليات روسيا العسكرية وأحلافها السياسية كلها، وذلك من خلال تحديده مهمات الجيوبوليتيكي مبدئيًا «فلا بد للجيوبوليتيكي وهو ينطلق الى بحوثه العلمية، من أن يحدد مكانه الخاص على خريطة الأقطاب الجيوبوليتيكية، ويهذا ترتبط زاوية الرؤية التي سيحلل من خلالها الحوادث العالمية كافة، ولا يوجد عالم جيوبوليتيكي اتسم باللامبالاة نحو دولته أو شعبه أو لم يشاطرهما توجههما الخلقي أو التاريخي»([23])، ومن ثم ضرورة الانتقال إلى اكتمال النظرية فكريًا وتحولها إلى العمل والتنفيذ السياسي لاحقًا.

أساسات وفرضيات التوسع الروسي الجيوبوليتيكي هذه تتمحور في نقاط عدة يمكن تلخيصها في:

  1. فرضية دوغين الأساسية تقوم على أن ثمة توازن رعب عالمي مفاده عدم إمكان إقامة حرب عالمية مباشرة بين الدول الكبرى النووية «الواقع الآن أن العنصر النووي خصوصًا يسيطر أكثر على العصر الذي نعيش فيه، ويبدو أن الدول ما تزال مصممة على عدم استخدام هذه القوة الرهيبة، بشكل كثيف على الأقل، في الحروب الشاملة» ([24]).
  2. رفض الهيمنة الأميركية على العالم بما فيها ثقافة الليبرالية، التي يراها دوغين الشر الأكبر، وبالضرورة العمل على إنتاج نظريات سياسية جديدة قابلة لوضع الحد لتوسعها وتمددها، وروسيا هي الدولة الكبرى المرشحة لأداء هذا الدور «فإن روسيا كقلب الجزيرة الأوراسية، ك heartland، استطاعت في الوضع الجيوبوليتيكي الحيوي، وبصورة أفضل من الأقاليم الأخرى جميعها، أن تواجه الجيوبوليتيكية الأطلسية وأن تكون مركز المجال الكبير البديل» ([25]). ما يعيد إنتاج شروط جديدة للعلاقات الدولية السياسية في ظل عالم مزدوج القطبية، لا عالم أحادي القطبية والهيمنة.
  3. الهمجية التي ظهرت بها الحروب العسكرية التي قادتها أميركيا، وبخاصة في العراق، جعل الروس يظنون أنهم أكثر قبولًا من غيرهم عند دول العالم، وربما يبدو هذا صحيحًا قبل تدخلهم العسكري الكارثي في سورية، كما عبر عنها نواف التميمي «لفهم روسيا الجديدة، لا بدّ من فهم طبيعة الأيديولوجية “الأوراسية الجديدة” التي باتت تحظى بقبول في أوساط واسعة من النخبة السياسية والإعلامية والفكرية في روسيا بما فيها الرئيس فلاديمير بوتين»([26])، وفي رأي اليوم المصري أيضًا «إن الأوراسية، في الواقع، هي أيديولوجية معادية للغرب بمعنى أنها ترفض حق المجتمع الغربي لفرض معايير الخير والشر وتسويقها وكأنها قاعدة عالمية. لا يعارض الأوراسيون فقط الهيمنة الغربية والتوسعية الأميركية، بل يرون في القيم الليبرالية خطرًا على الحضارة الروسية والمجتمع الأرثوذكسي المحافظ» ([27]).
  4. البحث عن أدوات سياسية معرفية جديدة تستطيع تجاوز عقدة الهيمنة الليبرالية ومن خلفها نظام العولمة أحادي القطب، فرسوخ النظام العالمي الجديد واستقراره عقودًا وتنحي فكرة الحرب المباشرة جعل الروس ومفكري الحداثة يبحثون عن علوم سياسية جديدة تتجاوزها، طبعا مع وجود الفارق الكبير بين التوجهين (ويمكن إدراجه في دراسة فكرية نظرية مختلفة عن هذه الدراسة لكثافتها وتوسعها الفكري والنظري)، فكان لمركز كاتخيون للدراسات توطئة كبرى في هذا الجانب تأخذ بعلوم الاجتماع والتاريخ المشترك وبالضرورة السياسي أيضا «بما أننا نتعامل مع مجتمع عالمي جديد نوعيًا لا يواجه أي معارضة، فقد فتح أفقًا جديدًا لعلم الاجتماع. ومن هنا، في الواقع، نواجه أيديولوجيات جديدة في العلاقات الدولية، تختلف عن أدوات المدارس التقليدية في العلاقات الدولية التي تفقد أهميتها تدريجًا ومن ثم ضرورة إدراج نظريات اجتماعية جديدة» ([28]).
  5. العودة الثقيلة إلى مفهوم التوسع الإمبراطوري من خلال عودة السيطرة على مثلث القوى العالمي الكلاسيكي وعدم الاكتفاء بالتقانات الحديثة: السيطرة على الممرات البحرية وعقد اتصالها المائية، والوصول البري إلى المياه الدافئة، والتعامل على أساس فرضية علوم الإنتروبولوجيا التي تقوم على فكرة وجود اتصال تاريخي بين كل من أوروبا وآسيا، أسماه دوغين، “الأوراسية” أو منظومة “أوراسيا الكبرى” التي تؤدي روسيا فيها دور المركز وصلة الوصل الكبرى عبر دوائر متعاقبة مركزها روسيا، فدائرة جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ومن ثم دول أوروبا الشرقية مرورًا بتركيا ووصلها بإيران في آسيا عبر سورية فـ«إن إيجاد مخرج على البحار الباردة في الشمال والشرق يجب أن يجري بالانفتاح على البحار الدافئة في الجنوب والغرب، وفي هذه الحالة فقط تصبح روسيا “مكتملة” من الناحية الجيوبولوتيكية، أما الاندفاعة الأخيرة نحو الجنوب الذي يمثل ضرورة حياتية لروسيا فكان التوسع الفاشل للاتحاد السوفياتي نحو أفغانستان. والمنطق الجيوبوليتيكي يظهر بالمعنى نفسه بأنه سيكون حتما على روسيا أن تعود إلى هناك على الرغم من أنه كان أفضل كثيرًا أن تعود في صورة حليف، وحام وصديق، من أن تعود في صورة جلاد غليظ القلب. وآنذاك فقط وعندما يصبح الخط الساحلي حدودًا جنوبية وغربية لروسيا يمكن الحديث عن الاكتمال النهائي لبنيانها الإستراتيجي» ([29]).
  6. تلخصت أفكار دوغين ونظريته في كتابه المترجم إلى الغة الإنكليزية، النظرية السياسية الرابعة The Fourth Political Theory””([30])– ومنه يستقي دوغين أفكاره السياسية معظمها ومقالاته في ذلك والمدونة في مراجع هذه الدراسة، ويحدد به فرضياته الجيوبوليتيكية كما جاء في الصفحات 10 و16 و19 منه

«The status quo and this inertia do not presuppose any political theories. whatsoever. A global world can only be ruled by the laws of economics and the universal morality of ‘human rights’. All political decisions are replaced by technical ones. So, The Fourth Political Theory is a ‘crusade’ against: postmodernity, the post-industrial society, liberal thought realized in practice, and globalization, as well as its it’s logistical and technological bases. That will return to the tradition and theology»

  1. «أيًا يكن فالعالم من الممكن أن يحكم بالقوانين الاقتصادية وبالأخلاق الكونية لحقوق الإنسان، فالحوارات السياسية كلها استُبدِلت بها التقانات فحسب. عليه فالنظرية السياسية الرابعة صيغت ضد: الأزلية، النظرية الاجتماعية الصناعية، أحقية الفكر الليبرالي سياسيًا، والعولمة، كما هي قواعد لوجستية وعالمية، هذا ما يعيد التقليدية السياسية واللاهوتية الفكرية»

فتلك الدراسات النظرية لدوغين قادته إلى مجموعة من الاستنتاجات القابلة للتموضع سياسيًا وذلك في سياق مواجهة نظام العولمة وعودة روسيا إلى موقع الريادة العالمي مرة أخرى، لكن ليس من بوابة نقدها وتجاوزها فكريًا كما فعل مفكرو الحداثة، بل من بوابة عودة الصراع الأممي والعالمي من وجهة نظر جيوبوليتيكية وفق نقاط ثلاث محددة تشكل نقاط ارتكازها:

  • اعادة تشكيل التحالفات الاقتصادية والسياسية والعسكرية لفرض المحيط الحيوي لروسيا بحكم الواقع وايجاد الصلة المباشرة بين تركيا وإيران لمحاولة وصل أوروبا بآسيا، وبدء عمليات فرض وجودها في سورية وإحراج الولايات المتحدة الأميركية في ذلك وتجنب الاحتكاك المباشر بها، بل العمل على عقد اتفاقات بينهما كما في اتفاقات الكيماوي السوري أو قواعد فض الاشتباك وتحديد خطوط التماس البرية والجوية في سورية.
  • الذهاب العسكري المباشر إلى احتلال موقع مهم على البحر المتوسط من خلال سورية في قاعدتي حميميم وطرطوس واتفاقات استثمارها ل 49 عام قابلة للتجديد، وربطه بالخط البري الواصل من موسكو إلى طرطوس عبر طهران وبغداد مرورًا بالبوكمال إلى الساحل ومحاولة إقفال الدائرة الجيوبوليتيكية تلك في المحيط الأورسي.

إضافة إلى ذلك العمل على تهجير الشعب السوري وقتله بدل استمالته سياسيا واقتصاديًا وإبراز الدور المهم لشراكته إنتروبولوحيًا.

ثانيًا: سورية الدوائر المتقاطعة وخطوط التماس الجيوسياسي

بلغت الثورة السورية مشاهد معقدة حار السياسيون في توصيفها أو فك طلاسمها، حتى باتت القدرة التحليلية تكاد تكف عن قدرتها على التنبؤ بموقف قريب يمكن التيقن باحتمال حدوثه، وحيث إن الدراسة الحالية تتجاوز حدود الثورة السورية، كما الربيع العربي بعامة، في ذاتها إلى معنى تحولها إلى مسألة فوق سورية، تبدو للوهلة الأولى إقليمية لكنها أكثر من ذلك دولية بل ربما هي مركز حوادث العالم اليوم وتكثيف صراعاته. فقبيل تدخل روسيا البوتينية في سورية عسكريًا وبصورة مباشرة فيها في 31/8/2015، شهد العالم كثافة ديبلوماسية وتحركات سريعة، وربما كان المعلن منها على صعيد الإعلام والكتابات والتحليلات السياسية غير كاف للوصول إلى عمق ما يحدث، فيقال إن ثمة شيئًا ما خلف الأكمة، وربما كانت الوعود الروسية تشي بقرب انتهاء مهمتها العسكرية خلال مدة قصيرة في سورية كما صرح بوتين وقتها، لكن الدائرة البوتينية تابعت عملها العسكري والسياسي معًا، لتعود مشاهد الحراك الدولي أكثر كثافة كما بعد معركة حلب في أواخر عام 2016، وكما يجري اليوم إثر ما يجري في الغوطة وريفي حماة وحلب وإدلب أيضًا.

فقبيل التدخل الروسي في سورية، شهد العالم أجمع بمنظماته الأممية، بقانونه الدولي، بسياسييه ومفكريه، بإنسانيته ووحشيته، شهد على صفقة رخيصة جرت بين جون كيري، وزير خارجية أميركية الأسبق، وسيرجي لافروف وزير خارجية روسية المستدام، على صفقة الكف عن معاقبة النظام السوري الذي استخدم السلاح الكيماوي في جريمة حرب موصوفة مقابل تسليم ترسانته الكيماوية، وذلك في خروج علني على قواعد النظام العالمي وقوانينه وشرعة حقوقه الإنسانية ودساتيره المدنية والعلمانية، وفي مفارقة كبرى عما حدث في العراق 2003 إثر تقرير، اعترف توني بلير رئيس وزراء بريطانيا في وقتها، بعدم صدقية ما جاء فيه ليسوّغ غزو العراق ويصبح، أي العراق، دولة تحت الاحتلال الأميركي ودولة مفتوحة على التمدد الإيراني. ويبدو أن أهم مؤشرات هذه الصفقة ودلالاتها كانت:

  • عزوف أميركيا وتحالفها الدولي عن التدخل العسكري المباشر خارج حدودها.
  • تخلي القانون الدولي بوصفه قانون حق تقرير الشعوب لمصيرها، وحماية استقرار الدول وصون حقوق مواطنيها، وما يتبعه من مفهومات حقوقية ومدنية وإنسانية، عن أداء دورها الفعلي في ذلك، ما يجعل السؤال مفتوحًا على مفارقة كبرى بين المنظومة الثقافية المعلنة للنظام العالمي، ومصالح دولها فيه بحسب تقديرات سياساتها ومؤشراتها ومراكز أبحاثها.
  • عزم الروس الجدي على الانتقال من مرحلة الحماية والرعاية السياسية للنظام إلى التدخل المباشر العسكري فيه بعد انكشاف واضح لتراجع الدور الأميركي في المنطقة.
  • تحول سياسات العالم المتقدم الرسمية كافة تدريجًا دون الانتقال من وصف ثورات الربيع العربي بالحروب الأهلية، والتركيز فقط على نقطة محاربة الإرهاب المتمثل بما يسمى بـ”داعش” والقاعدة والنصرة.
  • لتصبح بعدها سورية وشعبها، ودول المنطقة من خلفها تحت عمليات ضغط متوازية:
  • عسكرية من جهة تقوم بها روسيا وإيران في سورية ضد حواضن الثورة كلها بحجة الحرب على الإرهاب، بينما أميركا من جهتها تسعى لتثبيت دولة كردية في شرقها على مواقع البترول الحيوية فيها، وتخلي الأتراك عن سياستهم المعلنة “بصفر مشاكل مع الجيران” ودخولهم الأراضي السورية ضد داعش ولًاحقا الأكراد، وتمدد إيراني شاسع في اليمن، مع دخول السعودية وتحالف دول الخليج في حرب استنزاف طويلة فيها.
  • سياسية اقتصادية متعددة الأطراف أهم مؤشراتها كثافة بيع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية لدول الخليج العربي وإيران أيضًا، وممارسة الضغوط السياسية على دول المنطقة لتمرير ما يسمى بصفقة القرن التي أعلنها ترامب في إعلان القدس عاصمة “إسرائيل” ونقل سفارتها إليها، لتصبح المسألة القطرية في محيطها الخليجي محض تفصيل سياسي في مجريات الحدث، ولتبرز للعيان إعادة تشكيل التحالفات العسكرية والسياسية على إيقاع الإنذار باقتراب حرب كبرى، أقلها سياسية – اقتصادية وأقساها عسكرية كارثية.

1- الدوائر الجيوبوليتيكية الروسية

يقول ألكسندر دوغين: «إن العالم مزدوج القطبية والمجابهة الكونية أجبرت فقط على خنق الدول التابعة بل على رشوتها أيضًا. والمجال الكوني الكبير الوحيد لدارسي المستقبل العولميين سيعني الزوال الكامل حتى لأقل ظل من أي استقلال مهما كان طفيفا، لأن الضغط بالقوة (العسكرية أو الاقتصادية) على “الآماد الصغرى” المفتتة المذراة يغدو الوسيلة الوحيدة للسيطرة (وضرورات الرشوة تنتفي من تلقاء نفسها خلف غياب المنافس الجيوبوليتيكي المعادي) .والوضع العملي يطرح أمام كل دولة وكل شعب (وبخاصة أمام الحكومات والشعوب التي كانت قد دخلت في المعسكر الجيوبوليتيكي المعادي للغرب الأطلسي)، خيارًا ملحًا، إما التكامل ضمن مجال كبير تحت قيادة الأطلسيين، وإما إقامة مجال كبير جديد قادر على مواجهة الدولة فوق العظمى الأخيرة»([31])، ما يفسر التدخل العسكري الروسي في مسألة القرم الأرمينة ولاحقًا تحولها إلى الاستفراد بالملف السوري بعد غياب وتراجع المنافس الأميركي فيها، أو بالأصح عند تحديد نقاط التماس وعدم الاشتباك في الأرض السورية وعليها، فبينما كان العالم ثنائي القطبية قبل عام 1989، كان تمدد المنظومتين كلتيهما يقوم على الصفقات السياسية والاقتصادية، لكنه بعد ذلك شهد استفرادًا لنظام العولمة بقيادة أميركيا لبلعمة دول بذاتها، كما أشرنا أعلاه، واليوم تحاول روسيا استكمال الدور ببلعمة سورية وإقفال دائرتها الجيوبوليتيكية كنتيجة لدراساتها ونظرياتها، فكان العمل العسكري في سورية مترافق مع عمل سياسي مباشر وكثيف مفاده:

  • ربط تركيا بإيران عبر موسكو وهذا ما جرى في ما سمي باتفاقات خفض التصعيد على أساس مؤتمرات آستانة بعد معركة حلب الكبرى، التي سربت في إثرها موافقة تركيا على تسليم حلب مقابل تفاهمهما مع روسيا على تمددها في المناطق الحدودية لها في مناطق الوجود الكردي، وتحول تركيا التدريجي من وجودها في حلف الأطلسي إلى قربها من المحيط الحيوي الروسي وإعادة تشكيل التوازنات الدولية على أساس القواعد الجيوبوليتيكة التي نظر لها دوغين.
  • تفريغ محتوى القرارات الأممية المرتبطة بسورية خاصة المتعلقة بتشكيل هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات الصادرة عن وثيقة جنيف عام 2012 وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وإعادة صوغها وفق مرجعية روسية تعيد صوغ الحل السوري بما يضمن استقرار وجودها العسكري فيها، بعد صفقات حميميم وطرطوس طويلة الأمد، والسياسي في المستوى الدولي بوصفها راعيًا أمميًا لعملية السلام في سورية، ودولة كبرى منتصرة على الإرهاب المزعوم فيها، في مشابهة لما فعلته أميركيا في أفغانستان والعراق سابقًا. فتصبح بذلك لاعبًا دوليًا أساسيًا يفرض قوانينه الجيوبوليتيكية ويثبت حضوره الأممي مرة أخرى كمركز في محور مجابه للمحور الأطلسي، وهذا ما أكده دوغين أيضًا ومن خلفه مركز كاتخيون للدراسات الروسي «هذه العقيدة العسكرية بدورها لها عنصران مكملان. توجه القيادة السياسية (الذي يمكن أن يتغير وفقًا للعوامل السياسية الداخلية والخارجية) والثوابت الجيوبوليتيكية التي تقيم تلك الأطر التي يمكن أن يتجلى في داخلها النهج السياسي. وهذا العنصر المكمل الثاني (وضع روسيا الجيوبوليتيكي) يؤكد بصورة لا تقبل التأويل، المعنى القاري للقوات المسلحة في روسيا، والتوجه إلى عدّ العدو الرئيس المحتمل لروسيا هو الحلف الأطلسي بالذات. وهذا ما يجر وراءه بصورة آلية التوجه القاري لمجموع العقيدة العسكرية، والأفضلية غير المشروطة للأنواع الإستراتيجية للأسلحة والتهيؤ لنزاع كوني ذي بعد يشمل الكرة الأرضية بأسرها» ([32]).
  • أحكام القبضة العسكرية على مواقع وجود القوات الروسية بما يضمن لها موقع القوة وفرض شروطها ويحقق معادلة الحرب التقليدية القائلة: إن المفاوضات تجري في مدى رماية الهاون، والعمل بذلك على ربط الملف العسكري ببعد سياسي، فحاولت تمرير مؤتمر سوتشي على أرضها بعد معركة البوكمال «البوكمال هي النقطة الإستراتيجية التي يجب أن يصل الجيش السوري إليها لفتح بولفار موسكو، طهران بغداد، دمشق بيروت. وهو من الممرّات القوية التي تلجم العدوانية الأميركية بأساليب عسكرية واقتصادية وسياسية، لأنّ بوسعه تطوير حركة اقتصادية كونيّة تجعل سكك حديد موسكو وخطوط المترو فيها تصل إلى بيروت، بعد اجتيازها الخطوط الحليفة» ([33])، وأخذ اعتراف أممي به، ولكن فشله الكبير فيه سياسيًا جعلها تعود إلى البحث عن نقاط ضغط كبيرة على المعارضة السورية من جانب وعلى الأوربيين والأميركان من جانب آخر وعادت إلى العمل العسكري المباشر من خلال عمليات الغوطة شرق دمشق.

فهل توقفت المسألة عند هذا الحد؟ وما الأدوار الأخرى المعمول بها على الأرض السورية؟

2- خطة سلام أم توجه جيوبوليتيكي أميركي؟

بالعودة إلى العمق في المشهد السوري وتقاطع الدوائر والمصالح الأممية والجيوبوليتيكية فيه، برزت عام 2015 دراسة لمركز راند الأميركي بعنوان “خطة سلام من أجل سورية”، التي بدأ بترجمتها السيد خليل حاج صالح وأتمها مركز حرمون للدراسات المعاصرة ونشرها في 11 تموز/ يوليو 2016([34]). تستند الخطة إلى تقسيم سورية إلى مناطق آمنة كأساس للاستقرار والحل فيها، فتقول الدراسة: «إن أفضل الآمال من أجل وقف المقتلة السوريّة، هو القبول بمناطق مُتفّق عليها، تأخذ في حسبانها التقسيمات الإثنو-طائفية، والخطوط الحالية للمعركة»، وهذه المناطق هي: منطقة سيطرة النظام من الساحل السوري إلى دمشق، ومنطقة كردية شرق الفرات ومثلها شمال غرب سورية، ومنطقتان منفصلتان كليًا تحت سيطرة المعارضة السورية المسلحة، واحدة في الشمال السوري في إدلب وشمال حلب، والثانية في الجنوب السوري. وستدار هذه المناطق بالمسيطرين عليها من قوى الأرض، على أن تضمن كل من روسيا وإيران التزام النظام، وتركيا والأردن التزام المعارضة، وأميركيا التزام الأكراد، لتبقى منطقة داعش الشرقية تحت الوصاية الدولية بعد طردها منها.

وقد طرحت الخطة أيضًا، مناطق ضرورية للتبادل بين الأطراف كلها بغية منع وجود خطوط تماس مباشرة بينها، وهذا ما يبدو واضحًا إلى اليوم في المشهد المشار إليه أعلاه. وتشير الخطة أيضًا إلى اعتراضات محتملة من خلال أن يسمح هذا التقسيم بعمليات تطهير عرقي وإثني في مناطق عدة من سورية خصوصًا الأقليات، إلا أن وجود ضامنين لهذا الحل من جانب، ووضعه بديلًا مقارنًا لاستمرار الاقتتال الداخلي الذي يجيز ديمومة القتل في سورية وتقسيمها بالنتيجة، جعل هذه الخطة محط اهتمام ورعاية على ما يبدو في الكواليس المخفية للسياسة الدولية.

واقترحت الخطة عددًا من التوافقات حول شكل الحكم في سورية تباينت بين لا مركزية محدودة أو مخففة إلى مركزية تماثلية وبصلاحيات جزئية ومحدودة للرئيس فيها، بحيث تخفف من المناقشة السياسية في أي تفاوضات مزمعة من سياقها الرأسي المتعلق بكرسي الرئاسة إلى سياق أفقي يتعلق بشكل الحكم، والتغلب على انعدام الثقة بين الأطراف المتنازعة في سورية، محذرة في الوقت نفسه من المبالغة في أي محادثات سياسية في هذا السياق، كما تشير الدراسة.

وحيث يبدو أن المسألة السورية باتت منذ رفض العالم إنصاف ثورتها على أرضية حقوقية عالمية تتمثل بـ: حق تقرير الشعب مصيره، محاكمة مرتكبي جرائم الحرب وتحقيق العدالة الإنسانية، البحث عن أفضل الطرائق وأكثرها جدوى للمساعدة في تحقيق دولة المواطنة والحريات التي يؤمن بها العالم الليبرالي أصلًا، والعمل الفعلي، لا الشكلي واللفظي فقط، على إنهاء الكارثة السورية التي بلغت الإحصاءات الأممية فيها أرقامًا مرعبة، تجاوزت خمسة ملايين مهجر خارجًا وسبعة ملايين داخلًا، ومليون طفل يتيم ومليون ونصف المليون إعاقة فيها بحسب منظمة الصحة العالمية عدا ملف المعتقلين المضني الذي يضع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان كلها على المحل.

من هذه الزاوية بالضبط يمكن تحديد رؤية نظام العولمة للمسألة على السورية، على أنها مسألة نزاع على النفوذ والسيطرة لا مسألة ثورة شعب، وتصبح خطة مركز راند الأميركية هي محض إعادة لتبادل الأدوار وتقسيمها في منطقة الشرق الأوسط عمومًا ومركزها سورية، بحيث تحافظ على الهالة الكبرى للأمن القومي الأميركي ومصالحه فيها، وعلى المحيط الآمن والهش للجوار الإسرائيلي. ويمكن بناء عليها، تفسير مجموعة من العمليات العسكرية والسياسية التي لا يمكن أن تسمى سوى جيوبوليتيكية في المدّة الأخيرة في سورية متمثلة بـ:

  • التوجه التركي لاستكمال عملياته العسكرية بما سمي بعمليات درع الفرات في الشمال السوري في منطقتي عفرين غربًا ومنبج شرقًا بوقت لاحق، هذا إضافة إلى أسباب تركيا الداخلية بالطبع.
  • عودة روسيا لاستكمال عمليات الغوطة بعد أن كانت مستثناة من ذلك لما قبل مؤتمر سوتشي، ومن ثم الدفع بالورقة الإيرانية إلى الواجهة بعد أن حاولت روسيا الضغط عليها بالتوقف عن التغلغل داخل سورية تنفيذًا لاتفاق عمان الثلاثي: الروسي الأميركي الأردني تجنبًا لصدام المشروعات الأميركية والروسية داخل سورية. ما يعني إمكان حدوث صدام مباشر بين إسرائيل وإيران قريبة، أو على الأقل في حال جرت عملية الغوطة كما في حلب قبل عام، أن نرى تحركًا إسرائيليًا من غرب دمشق لتحقيق معادلة توازن الأرض.
  • استكمال الولايات المتحدة خطتها في بناء قواعدها العسكرية في الشرق السوري التي تجاوزت عشرة قواعد بحيث تضمن مصالحها فيها وتحقق توازنًا جيوبوليتيكيًا من خلالها مع روسيا، ما يوشي بخلل محتمل حول موضوعي التنف والبوكمال كنقطتين إستراتيجيتين عسكريًا وجيوسياسيًا في قريب الأيام.
  • سورية عام 2011 حتى اليوم ليست العراق عام 2003، إذ لن تسمح المساحات الجيوبوليتيكية الأميركية للقوة الروسية الاستفراد بسورية كليًا كما فعلت هي في العراق سابقًا، وحيث إن الروس يمكنهم تثبيت نصر عسكري على قوى الثورة السورية واستعادة منزلة لهم في الموقع العالمي، لكنه لا يمكن السماح لهم بالاستفراد بقرار سورية المستقبلي سياسيًا حتى لا تشكل قطبًا منفردًا عالميًا يأتي على جزء من المصالح المعولمة من خلالها. فإن لم تتشكل بعد النواة الوطنية المتكاملة لمواجهة الروس، فإن كلًا من الأميركان والأوروبيين لن يسمحوا باستكمال الدوائر الجيوبوليتيكية الروسية وإحكام إغلاقها، لذلك كانت موقعة سوتشي مهزلة سياسية دولية، ستفرض على الأطراف جميعها لاحقًا العودة إلى جنيف، وإن لم تكن جنيف بما تمثله بمرجعية للحل السوري كاملًا، سيكون في أي مدينة كبرى عالميًا، تبحث في حلول جزئية جيوبوليتيكية في نموذج يحاكي مجريات البلقان في التسعينيات من القرن الماضي، وقد يكون أسوؤها تقاسم النفوذ داخل سورية، وأفضلها تفهم الروس إمكان إجراء تغيرات جزئية في بنية النظام، خشية الانزلاق في معادلات الحرب الباردة أو الساخنة قصيرة الأمد أو الطويلة مرة أخرى مع الناتو، إنه الرعب العالمي يبث حضوره في سورية اليوم.
  • التحرك الأوروبي الدبلوماسي المتسارع من خلال مبادرة ماكرون الرئيس الفرنسي في أواخر العام 2017، ومن على منبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لتخفيض الاحتقان المتزايد بين القطبين الروسي والأميركي من جهة والإقليمي الإسرائيلي الإيراني من جهة أخرى، وبخاصة أن أوروبا لا ترغب في خوض حرب جديدة بعد كوارث الحربين العالميتين وتقع تحت ضغطي الغاز الروسي والهيمنة والتفوق الأميركية.
  • وفقًا لهذه المجريات، لم تختلف خطة راند الأميركية عن مثيلاتها الروسية في مركز كاتخيون سوى بدعمها لتشكيل هيئة الحكم الانتقالي مع ترك خياراتها مفتوحة، ويشتركان في الجذر معًا:
  • تقاسم النفوذ السياسي والعسكري داخل سورية.
  • العبث الديموغرافي في مكونات الواقع السوري وتسويغ تهجير شعبه.
  • البحث عن نقاط جيوبوليتيكية محددة فحسب داخل سورية من دون النظر إليها كدولة ووطن كامل.
  • تجنب الاحتكاك المباشر بين القوى العالمية الكبرى من خلال العمل على تجنب الاحتكاك بين القوى السورية المحلية، المدعومة في كل منها من جانب من دون الآخر.
  • فتح كامل الخيارات الممكنة على تنفيذ الخطتين الروسية والأميركية بعنوان عريض هو الإرهاب المتمثل بداعش والنصرة وتفريخات القاعدة، ذات الحجة التي عملت بها أميركيا طوال عقود أربعة سابقة تقريبًا، بغية إعادة توزيع الخريطة العالمية على محامل جيوبوليتيكية لا على مواضع ارتكاز ديمقراطية وقانونية عالمية.

خاتمة؛ حول رؤية جديدة لعالم اليوم

لم تتأخر القراءات السياسية لعالم اليوم، خصوصًا بعد عام 2003 في الحرب على العراق واحتلالها، إذ برز التحالف الأميركي البريطاني بقوة عالمية على الرغم من رفض الفرنسيين والألمان في وقتها وصمت الروس أيضًا، ليعود اليوم، وعلى أرضية ثورات الربيع العربي والسوري بخاصة التنافس الأممي هو محور الحدث العالمي المؤهل للتطور والتصاعد لحرب عالمية ثالثة، لتبرز للعيان عجز القوى الديمقراطية العالمية عن كسبها مواقع الحدث العالمي وتراجعها أمام إعادة عصر القوة وفرض الحلول من خلالها. إن العالم الذي كان يعاني شيئية العلاقات المادية والباحث عن حلها من خلال ترسيخ قواعد التوازن العالمي والثورة التكنولوجية فيه والبحث عن طرائق التواصل المجتمعي وتأكيد الحريات والإنسانيات ونظم الحياة المشتركة، بات اليوم عاجزًا أمام الفورة البوتينية الروسية وعودة قوانين الجيوبوليتيك التقليدية، مضافًا إليها أن ثورات الربيع العربي كانت تهدد المنظومتين كلتيهما:

  1. العولمة بوجهها الاحتكاري العسكري والاقتصادي وبغطاء سياسي مرة وهيمنة عسكرية أخرى.
  2. الفورة البوتينة الروسية من المنظار ذاته على أرضية النظرية السياسية الرابعة.

ليظهر بذلك الجيوبوليتيك حلًا متفقًا عليه بين المنظومتين سواء كان هذا سريًا وبشكل أمني وسياسي عبر بعض التفاهمات المشار إليها أعلاه، أم بشكل علني يضمر فيه كل طرف للآخر موقع العداء ومحاولة ليّ الأذرع من دون المواجهة المباشرة كما في العقوبات الاقتصادية ([35]) التي تفرضها الولايات المتحدة على شركات وشخصيا روسية، كما غيرها من الإيرانية، أو ببعض العمليات العسكرية المنتقاة كما حدث في دير الزور مطلع شباط/ فبراير عام 2018 حين وجهت القوات الجوية الأميركية ضربة عسكرية إلى القوى البرية الروسية فيها([36])؛ ف «الجيوبوليتيك يعدّ واحدًا من العلوم التي ترفع الغطاء عن القوانين المكانية، التي تطرح بقوة على واقع الأرض عودة التنافس الدولي من خلال القوة التقليدية

Geopolitics was once considered the science of uncovering the spatial laws that under laid the power relations of competing states. ([37])

إنه من المفيد في هذا السياق القول بأن ما يميز مطلع القرن الواحد والعشرين في ظل هيمنة العولمة بوصفها منظومة مالية اقتصادية عابرة للقارات، بأنه يظهر أزمة عالمية كبرى بين قواها الفاعلة فيه تفتح المجال لعصر القوة والهيمنة العالمية كما حدث قبل قرن من اليوم، «إضافة إلى ذلك فإن تحول الولايات المتحدة إلى دولة فوق عظمى وخروجها الى المرحلة النهائية للتالاسوكراتيا جعل علماء الجيوبوليتيكا الأميركيين يتدارسون نموذجا جيوبوليتيكيا بالغ الحدة لا تشارك فيه القوتان الأساسيتان، بل قوة واحدة فقط. وقد وُضِعت صيغتان لتطور الحوادث، إما الفوز النهائي للغرب في المبارزة الجيوبوليتيكية مع الشرق وإما الجمع بين المعسكرين الأيديولوجيين في واحد وإقامة الحكومة العالمية وسمي هذا المشروع “الموندياليزم”، وقد استدعى هذا الموقف اتجاهًا خاصًا في الجيوبوليتيكا هو “جيوبوليتيكا العولمة”. وقد عكف الأميركيون على صوغ هذه النظرية منذ السبعينات، لكن التصريح بها بصورة علنية لأول مرة جرى عام 1991 من طرف جورج بوش رئيس الولايات المتحدة خلال حرب الخليج»([38]).

في خلاصة هذه الدراسة يمكن إدراج عدد من النقاط الفكرية والسياسية يمكنها أن تثير جدلًا واسعًا، سواء على صعيد الثورة السورية أم على صعيد المنظومات العالمية وثقافة العصر يمكن إجمالها في:

  1. لم تكن ثورات الربيع العربي والسوري خصوصًا، حالة حرب أهلية كما يدعي بعض الإعلام العالمي ولا مؤامرة كونية كما يدعي تيار المقاومة وذيوله الزائفة ويسوّقون، بل كان ثورة عارمة في سياق التحرر الوطني وبناء الدولة العصرية، جرى العمل من السياسات الجيوبوليتيكية كلها للاستثمار فيه ومنع تحقق أهدافها التي ستضر بشكل التوازن والاستقرار لمنظومة العولمة أولًا ولروسيا الصاعدة لاحقًا، ما يفسر بوضوح شديد عدم جدية الأميركان في حل المسألة السورية واللعب على توازناتها.
  2. ثمة أزمة عالمية تتجلى خلاصتها في منظور ثقافي وسياسي ولكنها في العمق هي أزمة تنافس اقتصادي ووجود عسكري يفترض الهيمنة والتحكم، في مشابهة ومحاكاة خطرة على الفكر البشري مفادها “أن التكنولوجيا كما هي ثورة اتصالات، لكنها تقوم على التحكم الذاتي، بالمبدأ، علميًا، ما يشجع صناع القرار السياسيين والاقتصاديين على سلوك النهج ذاته على البشر والمجتمعات”، ما ينذر بقرع طبول حرب عالمية ثالثة من أرض سورية وعليها.
  3. لا يمكن للجيوبوليتيك أن يكون نظرية رابعة في السياسة متكاملة، بقدر تشكيلها حلقات متداخلة وجزئية تفترض السيطرة والقوة العسكرية وبطشها، هي عودة إلى مرحلة تطور النزعات العصبية الكبرى المتمثلة في الشيوعية والنازية والفاشية التي أنتجت حربين عالميتين كارثتين، إنها انتكاس في الفكر السياسي وعودة بالإنسان إلى مرحلة الهمجية وما قبل الدولة والأمة، هذا ما يتجلى بوضوح في نمو النزعة القومية لدى اليمين المتطرف الأوروبي في مقابلة الفورة البوتينية وسياسات ترامب الأميركية المريبة الباحثة عن المال والمال فقط.
  4. كان من الممكن للجيوبوليتيك أن يخطو بالاتجاه الصحيح لو أنه قام على أساسي التحالفات الاقتصادية والسياسية من دون العسكرية، والعمل على تقوية الروابط التاريخية بين المجتمعات البشرية مختلفة الأعراق، عندها كان من الممكن أن يحرج منظومة العولمة وعلى رأسها الولايات المتحدة لأنه كان سينتصر لثورات الشعب العربي، ومن ثم كان من الممكن أن تشجع الأوروبيين على اتخاذ خطوات مماثلة وقوية تعيد النظر في أسياسات بناء المجتمع الدولي بشكل أكثر أحقية وعدالة وقانونية، لكنها قامت بعكس فرضيات دوغين الإنتروبولجية، فعادت سكان المنطقة وبخاصة الشعب السوري وأفصحت عن مدى الهمجية والبربرية الروسية التي لا تمتلك من ثقافات العصر سوى فكرة البطش العسكري وقوة البطش المتغول.
  5. أظهرت الثورة السورية ومظالمها الجسيمة عجز الثقافة العالمية، ثقافة التحرر والعصرنة والحداثة، ثقافة الحقوق والمواطنة عجزها حتى اليوم عن امتلاكها القدرة على فرض وزنها العالمي على صناع السياسة وأصحاب الشركات الكبرى العالمية، على الرغم من كثير من المحاولات الجادة في ذلك، ما يعكس أزمة فكرية كبرى لم تستطع بعد أن تمتلك قوة الوجود الفعلي خارج منظومة الليبرالية النفعية (البراغماتية) والثورة السورية بهذا السياق هي جرس الإنذار الكبير للمفكرين في البحث فيه والعمل على نقدها ومحاولة تجاوزها فكريًا من حيث المبدأ وسياسيًا لاحقًا عبر المؤسسات الدولية الكبرى التي تنتمي فعليًا إلى ثقافة الحريات من دون مواربة أو انتفاعية.
  6. ثمة إمكان لتحجيم الدور الإيراني في الشرق الأوسط، فقط عندما تقر كل من السياستين الكبريين الأميركية والروسية باكتفاء دورها المفتت في المنطقة بدءًا من العراق 2003 ولغاية اليوم، فقد تم استخدامها جيوبوليتيكيا لأغراض التوسع والهيمنة مرة أخرى، وهذه إحدى أهم النقاط التي من الممكن العمل عليها من قبل فصائل وقوى المعارضة السورية سياسيًا.
  7. وأخيرًا، الثورة السورية باتت فوق سورية، باتت كثافة أزمة عالمية ومركز حدثه الأكبر، والسوريون بعمومهم اليوم يدركون أنهم باتوا بين فكي الكماشة العالمي في عالم بات متغولًا ويعتمد على منظومة الميليشيات المرتزقة ويستثمر فيها وعليها، هو عالم أقل ما يقال فيه، أنه عالم من دون مرحلة الإنسان، وما قبل مرحلة أنستنه وتوطينه على أفكار السلام والحب والخير والتعايش المشترك، وكل ما يقدم من تحليلات سياسية تذهب باتجاه فقدان السوريين معارضة ونظامًا لقرارهم وسيادتهم يبدو صحيحًا في هذا السياق الجيوبوليتيكي المتغول والمتحكم بعناصر القوة والمتأخر عن منجزات الحداثة العالمية التي نادى بها فوكوياما وغيره.

هي ثورة كبرى، وروح أمة تبحث في مناخات قاسية من الجفاف العالمي لقيم الحرية والعدالة، ولا يمكنها مواصلة دربها على الرغم من هذه الفورات الجيوبوليتيكية كلها إلا عند تمسكها بثوابتها العامة في الدعوة إلى السلام والعدالة والحريات العامة والابتعاد كل البعد عن النفعية والبراغماتية التي تقود إلى مزيد من تعقيد المشهد السوري وتأزميه عالميًا. فحيث لا يمكن للقوى الكبرى العالمية أن تستمر في احتلال دول بأكملها حتى آخر العصر فلا بد أن ينمو ويتزايد إمكان إيجاد نوافذ سياسية وفكرية عالمية تستفيد من خطر الرعب العالمي المقبل، ويبدو الأوروبيون أنهم أكثر البوابات الممكنة لأداء هذا الدور، وهو ما على سياسيي ومفكري المعارضة السورية التوجه إليه بقوة وثقة، مكررًا المقولة ذاتها في بحث سابق: ما قبل الثورة السورية تاريخ وما بعدها تاريخ آخر.

المصادر والمراجع

  1. أمين. سمير، “بعض قضايا للمستقبل”، (بيروت: دار الفارابي،1990).
  2. تشومسكي. نعوم، “السيطرة على الإعلام”، أميمة عبد اللطيف (مترجم)، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2003).
  3. دودز. كلاوس، وديفيد أتكنسون، الجغرافية السياسية في مئة عام: التطور الجيوبوليتيكي العالمي، عاطف معتمد وعزت زيان (مترجمان)، ط 1 (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010).
  4. سعودي. محمد عبد الغني، “الجغرافية السياسية المعاصرة/ دراسة الجغرافية والعلاقات السياسية الدولية”، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 2010).
  5. سيليرييه. بيير، الجغرافية السياسية والجغرافية الإستراتيجية، أحمد عبد الكريم (مترجم)، (دمشق: الأهالي للنشر والتوزيع، 1988).
  6. غارودي. روجيه، الإرهاب الغربي”، داليا الطوخي وآخرون (مترجمون)، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2004).
  7. فوكوياما. فرانسيس، “نهاية التاريخ وخاتم البشر”، حسين أحمد أمين (مترجم)، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة، 1993).
  8. معلوف. أمين، “اختلال العالم/حضارتنا المتهافتة”، ميشال كرم (مترجم)، (بيروت: دار الفارابي، 2009).
  9. هابرماس. يورغن، “العلم والتقنية كأيديولوجيا”، حسن صقر (مترجم)، (كولونيا/ ألمانيا: دار الجمل، 2003).
  10. هيسه. هيرمان، “ذئب السهوب”، أسامة منزلجي (مترجم)، (دمشق: دار حوران، 1997).

([1]) فرانكو موريتي، “ديالكتيك الخوف”، مجلة الكرمل، عدد 88-89، يوليو/ تموز 2006.

([2]) http://www.amazon.com/dp/0887309674

([3]) Kenichi Ohama, “Managing in a borderless world”, Harvard business review, 5-6/1989

([4])  سفين جلال فتح الله، “دراسات جيوبولتيكية”، مركز كردستان للدراسات الإستراتيجية، 2013، ص 31.

([5])  صموئيل هنتنجتون، “القوة العظمى الانفرادية/ البعد الجديد للقوة”، (مركز فلسطين للدراسات والبحوث، 1999).

([6]) فرانسيس فوكوياما، “نهاية التاريخ وخاتم البشر”، حسين أحمد أمين (مترجم)، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة، 1993)، ص52.

 ([7]) راجع بالتفصيل الحروب الأميركية بعد عام 1989 لتاريخه، والحروب الروسية أيضا المدونة في الدراسة السياسية المعنونة: المسألة السورية: روسيا بين الترويض والقطبية العالمية، جمال الشوفي، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 26/2/2017

([8])  راجع كتاب ” “The Gutenberg Galaxyالصادر عام 1962 لـ Marshall McLuhan والمعاد طباعته مرات عدة آخرها 2011.

 ([9]) هيرمان هيسه، “ذئب السهوب”، أسامة منزلجي (مترجم)، (دمشق: دار حوران، 1997)، ص 65.

([10]) روجيه غاردوي، الإرهاب الغربي، داليا الطوخي وآخرون (مترجمون)، الجزء الأول،  (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2004)، ص 119.

([11]) أمين معلوف، “اختلال العالم/ حضارتنا المتهافتة”، ميشال كرم (مترجم)، (بيروت: دار الفارابي، 2009)، ص 77.

([12]) نعوم تشومسكي، “السيطرة على الإعلام”، أميمة عبد اللطيف (مترجم)، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2003)، ص 26-27.

([13]) سمير أمين، “بعض قضايا للمستقبل”، (بيروت: دار الفارابي، 1990)، ص 69.

([14]يورغن هابرماس، “العلم والتقنية كأيديولوجيا”، حسن صقر (مترجم)، (كولونيا/ ألمانيا: دار الجمل، 2003)، ص 113-114.

([15]) https://en.wikipedia.org/wiki/Rudolf_Kjell%C3%A9n

([16]) محمد عبد الغني سعودي، “الجغرافية السياسية المعاصرة/ دراسة الجغرافية والعلاقات السياسية الدولية”، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 2010).

([17]) http://www.geopolitics-hadad.blogfa.com/category/1

([18]) كلاوس دودز وديفيد أتكنسون، الجغرافية السياسية في مئة عام: التطور الجيوبوليتيكي العالمي، الجزء الأول، عاطف معتمد وعزت زيان (مترجمان)، ط 1 (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010)، ص 9.

([19]) جلة سماعين، “النظرية السياسية الرابعة: روسيا والأفكار السياسية للقرن الحادي والعشرين”، Ars Magna Editions, 2012.

([20]) Walter Russell Mead, “The Return of Geopolitics, The Revenge of the Revisionist Powers”, Foreign Affairs, May/June 2014

([21]) إميل امين، “دوغين والنظرية السياسية الرابعة”، جريدة إضاءة الإلكترونية، 18/11/2016.

([22]) أمينة مصطفى دلة، “المخيلة الجيوبولوتيكية الروسية والفضاء الأوراسي”، المعهد المصري للدراسات السياسية و الاستراتيجية، القاهرة، 27/9/2016.

([23]) ألكسندر دوغين، “الجيوبوليتيكا أداة للسياسة القومية.. القوى البرية مقابل القوى البحرية الانغلو ساكسونية”، مركز كاتخيون للدراسات، 31/10/2017.

([24]) الأميرال بيير سيليرييه، الجغرافية السياسية والجغرافية الإستراتيجية، أحمد عبد الكريم (مترجم)، (دمشق: الأهالي للنشر والتوزيع، 1988)، ص 11.

([25]) ألكسندر دوغين، “المشاكل الجيوبولتيكية وقوانين المدى الكبير والعولمة والمفارقة الروسية”، مركز كاتخيون للدراسات، 14/10/2016.

([26]) نواف التميمي، “ألكسندر دوغين: من الفكر إلى دماغ بوتين”، العربي الجديد، 19/10/2015.

([27]) كيفورك ألماسيان، “ألكسندر دوغين والفلسفة الكامنة وراء إستراتيجية بوتين “، رأي اليوم، 26/10/2015.

([28]) مركز كاتخيون للدراسات، “نظريات العولمة”، 24/3/2016.

([29]) ألكسندر دوغين، ” القوة الأوراسية والبحار الدافئة والباردة”، مركز كاتخيون للدراسات، 12/8/2016

([30]) Alexander Dugin, “The Fourth Political Theory”, Translated by: Mark Sleboda & Michael Millerman, 1st edition, ARKTOS MEDIA LTD, London, 2012.

([31]) ألكسندر دوغين، “المشاكل لجيوبوليتيكية وقوانين المدى الكبير والعولمة والمفارقة الروسية”.

([32]) ألكسندر دوغين، “الجيوبوليتيكا الداخلية لروسيا والعقيدة العسكرية مرتبطة بمهمتها الكونية”.

([33]) مركز كاتخيون للدراسات، “الطريق إلى سوتشي يمر من البوكمال”، 3/11/2017.

([34]) خطة مؤسسة راند الأميركية للحل في سورية، وحدة الترجمة و التعريب -مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 11 تموز/ يوليو 2016.

([35]) العقوبات على روسيا، https://arabic.cnn.com.

([36]) https://www.alaraby.co.uk/politics/2018/2/8/

([37]) Nick Megoran, “CHRISTIANITY AND POLITICAL GEOGRAPHY: ON FAITH AND GEOPOLITICAL IMAGINATION”, Faith and Voction, 9/2/2004.

([38]) ألكسندر دوغين، “الجيوبوليتيكا الداخلية لروسيا والعقيدة العسكرية مرتبطة بمهمتها الكونية”، مركز كاتخيون للدراسات، 5/9/2016.

جمال الشوفي: كاتب وباحث سوري، حاز درجة دكتوراه في الفيزياء النووية منذ عام 2008، له عدد من الأبحاث العلمية المنشورة، وعدد من المقالات والدراسات الفكرية والسياسية المتعلقة بالمسألة السورية.

Scroll to Top